قضايا

رائد جبار كاظم: "الاسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق في ذكرى مئويته

لقد عُدت العدة، وتم شحذ الهمة، وتكاتف السواعد والاقلام الفكرية والثقافية كما السياسية والعسكرية، غربياً وعربياً، لنهاية أسطورة الدولة العثمانية، التي كانت آخر الأمبراطوريات الحاكمة بإسم الإسلام، والإسلام السياسي على وجه التحديد، من خلال الاعتماد على فكرة الخلافة الإسلامية، التي لبس معطفها السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918م)، مدعياً خلافة المسلمين، ذلك الحاكم الذي كان مصدر قلق للغرب والشرق، والعرب والمسلمين، مما جعل التحرك للأطاحة به وبحكمه ودولته على قدم وساق، وقد تظافرت الجهود الغربية والعربية للعمل المستمر على سقوط الحاكم ودولته معاً، فبدأت عجلة الفكر والثقافة بالعمل على تلك الاطاحة وذلك السقوط المعد له في السيناريوهات السياسية الجديدة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد أتى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق (1888-1966م) الذي صدر عام 1925، ليضع المسمار الأخير على نعش الخلافة الاسلامية، ويمثل البداية الجديدة للحكم المدني وتكوين الدولة العلمانية الجديدة، الذي دشنته الدولة التركية الجديدة، بإقامة الجمهورية التركية، تلك الجمهورية التي تدين بالولاء والتكوين والدستور للفكر الغربي، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك (1881-1938م)، وما كان لعلي عبد الرازق، القاضي والشيخ الأزهري في كتابه، إلا ليستنهض الهمم للاطاحة بملك مصر فؤاد الأول (1968-1936م)، وبحكم دولة الخلافة العربية في مصر، التي سعى لها الملك آنذاك، وسعى عبد الرازق لإقامة الدولة المصرية الوطنية المدنية الجديدة، من خلال كتابه الذي يعد البيان الرسمي الأول لإقامة الدولة المصرية على غرار الحكم التركي، وغلق مسألة الخلافة التي سعى لها الملك فؤاد الأول للحصول عليها بعد أن ترك الأتراك أمرها، كما كان من قبل عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902م) قد سعى لرفد إقامة الخلافة العربية في نجد والحجاز في كتابه (أم القرى)، ومحمد رشيد رضا (1865-1935م) في كتابه (الخلافة) الذي ألفه عام 1922، دعماً لخلافة الملك فؤاد الأول، بعد تخلي السلطنة العثمانية عنها.

الذي نود تسليط الضوء عليه هو التوظيف الفكري والثقافي والديني لصالح السياسي، في تلك الفترة من الواقع السياسي والاجتماعي العربي والاسلامي، وصدامه مع الفكر السياسي الغربي الجديد وفكرة الدولة المدنية الحديثة، بين فريق مؤيد لقيام للدولة العربية الجديدة بثوب ديني قومي (الكواكبي)، وفريق يحبذ قيام الدولة الاسلامية الدينية (رشيد رضا)، وفريق ذهب مع قيام دولة وطنية عربية علمانية غير دينية (عبد الرازق)، تتخذ من التجربة التركية الجديدة نموذجاً لها في مصر، وقد نظّر عبد الرازق لذلك في كتابه الاسلام وأصول الحكم، الذي نفى فيه فكرة قيام دولة الرسول وفكرة الخلافة السياسية الدينية التي تولاها الخلفاء الراشدين الأربعة.  حيث يقول: (والحق أن الدين الاسلامى بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هياوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وانما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم يذكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وانما تركها لنا، لترجع فيها الى احكام العقل، وتجارب الامم، وقواعد السياسة. كما أن تدبير الجيوش الاسلامية، وعمارة المدن والثغور، ونظام الدوواوين لا شان للدين بها، وانما يرجع الأمر فيها الى العقل والتجريب، او الى قواعد الحروب، او هندسة المباني وآراء العارفين. لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذى ذلوا له واستكانوا اليه، وان يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على احدث ما انتجت العقول البشرية، وامتن ما دلت تجارب الأمم على انه خير اصول الحكم.). الاسلام وأصول الحكم. ص 182.

فقد قدم عبد الرازق كل ما يملك من أدلة وحجج وبراهين دينية وعقلية وفكرية على أن النبي ليس بحاكم أو ملك، وانما هو نبي ورسول ووحي للأمة، فزعامة النبي للأمة (زعامة الدعوة الصادقة الى الله وإبلاغ رسالته، لا زعامة الملك. انها رسالة الدين، وحكم النبوة لا حكم السلاطين...ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، منشؤها ايما القلب. وخضوعه خضوعاً صادقاً تاماً يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد اخضاع الجسم من غير ان يكون لها بالقلوب اتصال. تلك ولاية هداية إلى الله وارشاد اليه ، وهذه ولاية تدبير المصالح الحياة وعمارة الأرض. تلك للدين، وهذه الدنيا. تلك لله، وهذه للناس . تلك زعامة دينية، وهذه زعامة سياسية، ويا بعد ما بين السياسة والدين.) الاسلام وأصول الحكم. ص 157.

لقد حشّد عبد الرازق كتابه لدحض فكرة الخلافة الاسلامية التي كان رشيد رضا قد حشّد كل ما أستطاع اليه سبيلاً من شحذ كتابه (الخلافة) بالأدلة النقلية والعقلية لتأييد قيام دولة الخلافة الاسلامية، ونجد إن الصراع قائم على قدم وساق بين مؤيد دولة الخلافة وبين من يرفضها، وقد كان هنالك طرف ينظر الى ما تؤول اليه نتائج الصراع بين الأثنين ليخرج بنتيجة تنسجم وطروحاته وتوجهاته الأيديولوجية، وكانت القوى السياسية الخارجية تأخذ هذا الدور، وتشحذ الهمم وتغذي هذى على حساب ذاك، وتشجع ذاك على حساب هذا، وكأننا في حلبة صراع، الفائز كلاهما خاسر، والرابح الوحيد هو من يراهن على الفوز في تحقيق نجاحه على حساب الآخرين، بينما تبقى نار الصراع مستعرة بين جميع الاطراف دون تهدأة، ويبقى الناظر والمراهن سيد الأمور، وهذا ما نجده قائماً الى يومنا هذا، من خلال السير في ركاب الغرب دون أن ندركهم، وتخلينا عن هويتنا دون أن نحييها، ونبقى مذبذبين بين ذلك لا إلى هوؤاء ولا إلى هؤلاء. وها نحن بعد مضي مئة عام على تأليف كتاب الاسلام وأصول الحكم نعيش تناقضات وصراعات سياسية واجتماعية عربية واسلامية، زادت حجم الشقة بيننا، ولا نثق بأي مشروع سياسي يقدم لنا، والدول العربية مختلفة الولاء للغرب، بين تابع واقع في أحضان الغرب أسمه عربي ومساره غربي، وبين معاد للغرب متخلف يخدع شعبه بعداوته للغرب وهو يشارك في تأخر جماعته، وبين طرف ثالث يريد تحقيق حلمه بالأستقلال العربي دون تدخل الغرب، وطرف رابع يريد الجمع بين رأيي الفريقين (العربي الغربي)، وتبقى أحلامنا الرومانسية طاغية علينا لا تسمن ولا تغني من جوع، وها نحن بعد مئة عام من خطاب علي عبد الرازق لم نلج عالم العلمانية عربياً، وفشل المشاريع السياسية الوطنية، وبقي خطابنا السياسي المثالي الديني يغذي مجتمعاتنا بصورة متشنجة ونتقاتل فيما بيننا بين خطابات متهالكة تدل على بؤسنا السياسي والثقافي معاً. وبقي الغرب يتقدم أكثر ونحن نتأخر أكثر، دون أن ندرك خطاب نهضة أو تنوير جديد ينير لنا الطريق أو ندرك به سبيل النجاة.  

***

د. رائد جبار كاظم

 

في المثقف اليوم