قضايا

رائد عبيس: الوثيقة، والارشيف، والذاكرة

تختلف دلالة كل مفهوم من هذا العنوان في ثقافة كل بلد ومجتمع له فيها فلسفة خاصة، وقد لا تكون هذه الدلالة مكتوبة بقدر ما هي مفعولة. واحيانا تترك الدلالات لمن يجدها بائنة او من يوجدها في فهمه. وهنا تتطور الدلالات تبعا لزمن التمعن والقراءة. مما يجعل تعريف كل مفهوم متغيراً وفقا لفلسفة المجتمع فيها. ونعني بذكرنا للمجتمع دون السلطة، لأن السلطة هي من تنتج هذه المفاهيم التي تكون قيمتها بعد زوالها، فيكون للمجتمع فيها الأثر الأكبر في إعادة النظر مما انتج من وثائق، وما تكون من أرشيف، وما يتفاعل معه من ذاكرة.

ونقصد هنا بـ (الوثيقة، والارشيف) ما أنتجته السلطة من وثائق وما خلفته من أرشيف، لا سيما ما خلف لديهم من ذاكرة سلبية عن طبيعة الحكم والسلطة المعتدية عليهم.

الوثيقة:

تختلف دلالات الوثيقة بمفهومها العام عن الوثيقة بمفهومها السلطوي. فالوثيقة الشخصية، أو الوثيقة الإدارية، أو الوثيقة القانونية، تعبر عن الهوية المعنوية للفرد والمجتمع والسلطة. وهذا ما نتج من تطور في حياة الإنسان الحديث والمعاصر، الذي يمكن أن نحصر دلالات الوثيقة بنشاطه المقترن مع نشاط الدولة الحديثة.

فإذا ما رجعنا تاريخيا، فيمكن أن نعد كل ما خلفه الإنسان بمثابة وثيقة عن تاريخه القديم، فتكون هنا دلالة الوثيقة بمعناها التاريخية هي غير الدلالة الوظيفية للوثيقة التي تعبر عن النشاط الفعال للإنسان الحديث.

وإذا ما قصرنا الأمر على الدلالة السلطوية للوثيقة، فسوف نضطر للخوض في تحليل متعدد الأركان لها، أبتداء من تشكل الصورة الأولى للوثيقة، أو من فكرة إنشاء وثيقة، بقصد ما او ضمن سياق متبع.  فتتطور الدلالة المرحلية للوثيقة (من الفكرة الى المسودة، والى الإكتمال، والى التوقيع، والى الإصدار، والى التنفيذ، والى الإلزام). فالوثيقة الواحدة لا يمكن أن تكون أرشيفها متكاملا، بقدر ما توحي إلى أرشيف متكامل وإلى نظام إداري وسلطوي متكامل. فضلاً عن الهرمية الإدارية في صورة الوثيقة من الأعلى إلى الأدنى. من المحرر الى الموقع، ومن الشعار الى المشار أليه، ومن العام إلى الخاص، ومن الموجه الألى إلى الموجه أليه الأدنى، ومن العنوان الأعلى إلى العنوان الأدنى، ومن التعميمات إلى الخصوصية، حيث السرية، والسرية للغاية، والسري والشخصي. إلى جانب الهامش الذي يمثل في كثير من الأحيان دلالات التراتبية الإدارية، والسلطوية في الإلزام، والإذعان في التنفيذ.

فهي تعكس ايضاً سلطة القرار في التكوين، والإصدار، والتوقيع، بل وتلخص ايضا الأوامر التي تحملها هذه الوثيقة، فتتحول من وثيقة ناقلة للمعلومات والتوجيهات الى وثيقة الطاعة والإذعان والتنفيذ، حتى لو لم تحمل تأكيد كافي على التنفيذ، وهنا تبرز النفوس الضعيفة في تنفيذ السلطة، وممارستها، واستعمالها ذريعة تعسفية على الآخرين.

فالوثيقة الآمرة تنقل لنا السلطة وقوتها من قوة الموقع إلى قوى وسلطة أخرى، تتمثل بقوة المنفذين، وهنا تظهر لنا سلطة وقوة ثالثة، هي سلطة المذعنين في تطبيق مضمونها.

كما قد تظهر لنا قوة أخرى، هي قوة المعارضة لسلطة الموقع، وسلطة المنفذ، وسلطة المُذعنين، بالامتناع عن الآخذ بما جاء بها من توجيهات، وتعليمات، وأوامر، وقرارات.

فالوثيقة لها مصدريتها المنشئة، والمطبقة، والمنفذة، ولها تأثيرها المادي والمعنوي، الا أن الآثار المادية للوثيقة قد تزول باستيفاء الحقوق والتطبيق والإلزام، ولكنها تترك أثراً معنوياً على المعنيين المباشرين فيها والمعنيين غير المباشرين.

فضلاً عن كونها صورة كاشفة عن السياق الإداري، والانضباط الإداري، والهيكلية الإدارية، والهرمية الوظيفية، والنماذج الإدارية الفنية، والسياق اللغوي الإداري. والإمكانيات الإدارية المادية.

وكاشفة ايضاً عن المستوى السياسي المتبع، فهي تعبر عن طبيعة النظام، اذا كان ديمقراطيا او ديكتاتوريا شموليا او عسكرياً او مدنياً.

أما اذا اخذنا وثائق النظام البعثي البائد بكل اشكالها، فهي تعطي صورة واضحة عن طبيعة النظام، من حيث شعار الحزب، وأقوال صدام التي ترافق الكتب الرسمية، ومركزية الإصدارات، ووحدة النماذج الورقية... وغيرها من الصور التي توحي بخلط العناصر الإدارية للوثيقة مع الأمني مع السياسي!

وإذا تحدثنا عن أنواع الوثائق او الوثيقة، فيمكن القول بأن كل نشاط للإنسان يمكن أن يكون وثيقة لأثره فيما يفعل.  وعلى هذا فهي متكثرة ومتنوعة تبعا لما يريد الإنسان توثيقه لنفسه أو لغيره.

أما صور الوثيقة فيمكن أن تكون كالآتي:

1-  الوثائق الحية: وهي تلك الوثائق النشطة التي يمكن استعمالها وتوظيفها تبعا لنشاط الإنسان في مجاله .

2- الوثيقة الميتة: هي تلك الوثيقة الفاقدة لعناصر الاستنطاق والقراءة والتوظيف.

3- الوثيقة المزيفة: وهي الوثيقة المختلقة والمحاكية لوثائق اصيلة او مبتكرة، يقصد بها تزيف حقيقة معينة او تظليل العامة.

4- الوثيقة الأصيلة: وهي الوثيقة الموثوقة المصدر والمحفوظ من عناصر التزوير بكل مقومات أصالتها.

5- الوثيقة المشفرة: وهي الوثيقة التي يشفر جزء من معلومات واردة فيها، او تشفيرها كلها تبعا لآليات وطرق التشفير بقصد اخفاء معلوماتها.

6- الوثيقة المرمزة: وهي الوثيقة التي يشفر جزء من معلوماتها برموز معينة، بغية المحافظة على سريتها أو الحد من آثارها الأمنية والقانونية.

7- الوثيقة المؤرشفة: وهي الوثائق المحفوظة في سجلات أو أماكن خزن عبر نظام أرشفة معين يحمل أرقام أو رموز أو تسلسل وتبويب موضوعي لها.

8- الوثائق غير المؤرشفة: وهي الوثائق غير محفوظة بطرق وأساليب فنية للأرشفة، وتكون معرضة للتلف والضياع وفقدان الموضوعية والتسريب.

9- الوثيقة الناقصة: وهي الوثيقة الفاقدة لأحد عناصر وضوحها وموضوعها، أما بسبب التلف المتعمد او غير المتعمد، أو المستلة من ترتيبها الأرشيفي والموضوعي.

10-        الوثيقة الكاملة: وهي الوثيقة المحافظة على عناصرها الصحيحة، والمكملة لوحدة صورتها وموضوعها ومضمونها.

ما تقدم من صور للوثيقة يمكن ان يمثل قيمتها المادية، وجزء من قيمتها المعنوية، الا أن للوثيقة قيمة اعتبارية دقيقة الأبعاد يمكن ان نوضحها اختصارا بالآتي:

1- من حيث الجهة الصادرة عنها (المكان).

2- من حيث زمن الوثيقة وتاريخها.

3- من حيث التوقيع الذي تحمله .

4- من حيث الختم .

5- من حيث المضمون .

6- من حيث الصفة .

7-  من حيث القيمة القانونية والإدارية.

8- من حيث قوة التوجيهية.

9- من حيث القدم.

10- من حيث الخصوصية.

وللمقال تتمة، مع مفهوم الإرشيف ...

***

د. رائد عبيس

في المثقف اليوم