أقلام حرة
أكرم عثمان: الإنسانية أولاً.. مشاهد ودروس لا تنسى من صميم العمل والحياة
في خضم الحياة، وبين ثنايا تعقيدات العمل الوظيفي وضغوطه وتوتراته، تتكشف أمام أعيننا مشاهد كثيرة تكاد تجمع على حقيقة واحدة لا ثاني أو ثالث لها أن غياب البعد الإنساني هو أكبر الأخطاء التي يمكن أن نقع فيها في مسيرة حياتنا المهنية والوظيفية والاجتماعية في تعاملاتنا مع البشر، فحين يبتعد الإنسان عن الشعور بالآخرين ونسيان ذاك الكيان الذي يبنغي أن يولي الاهتمام به وإدراك ظروفهم واحتياجاتهم، تتبلد وتتجمد القيم وتضيع البوصلة الأخلاقية التي تهدي مساراتنا وتصحح رؤيتنا.
نعيش في زمن تتشابك فيه الأزمات وتتراكم فيه التحديات والمعضلات، وخصوصاً في سياق يشهد صراعات وحروباً تهدد وتفتك بالحجر والشجر والبشر. كل ذلك يترك ندوباً وشرخاً في النفوس والكيانات البشرية، ويكشف هشاشة الإنسان مهما بلغ من قوة أو تصنع بها أمام غيره لكي يثبت نفسه ومكانته. ومع ذلك يبقى هناك ضوءٌ لا ينطفئ ولا يخبو وهجه ولمعانه، إنه ضوء المواقف الإنسانية التي تبرهن أن الخير ما زال حاضراً وأن النفوس مهما تغيرت تعود لطبيعتها وفطرتها السليمة، وأن القيم الحقة قادرة على أن تنتشلنا من القسوة وغياب الرعاية والاهتمام، إن نحن تمسكنا بها وجعلنا نبراس تطلعاتنا وعنوان أصيل في مسيرتنا ونهج حياتنا.
إن جوهر السمت الإنساني ليس ترفاً ولا ضرباً من الخيال الذي لا يمكن تحقيقه أو تنفيذه، ولا شعاراً يستهلك لكي يرفع في المناسبات والتجمعات، بل هو ممارسة يومية تتجسد في اهتمامنا بالبشر ورعايتنا لظروفهم وقدرتنا على مشاركتهم العاطفية ودعمهم. هي مسؤولية موزعة على الجميع: كل بحسب موقعه، وبحسب ما يستطيع تقديمه من جهد، أو وقت، أو كلمة، أو حتى نظرة طيبة تخفف عن شخص مرهق أو متعب أو مهموم.
وهنا تتجلى أعظم القيم الإنسانية في التعلم من الأحداث والمواقف، فالحياة مدرسة صارمة، والأزمات مهما بلغت قسوتها وحدتها تبقى دروساً عميقة تنحت وعينا وتعيد تشكيل أولوياتنا وتدفعنا للعودة من جديد لجادة الصواب والاستقامة في الفكر والشعور والتصرف. ومن لا يتعلم من معاناته أو من معاناة غيره، يظل يدور في دائرة فارغة لا أثر لها ولا نفع يطاله.
مشاهد من واقع الحياة والعمل
في أحد الأيام، رأيت موظفاً شاباً قليل التجربة والخبرة انشغل بإنجاز معاملاته متجاهلًا مراجعة رجل كبير في السن يقف على باب مكتبه منذ دقائق طويلة. لا يقوى على تحمل رجليه لتلك الوقفه، فقد كان الرجل يترقب مبتسماً دون أن يهمس بكلمة أو تأفف، ربما يخشى أن يثقل على أحد. كان صاحب دراية وخبرة واسعة وحكمة في التصرف، لم يكن المشهد عابراً… فقد كشف أن الموقف ظهرت فيع ضعف الخبرة وقلة الوعي لغياب الحس الإنساني والمشاعري في استقبال الضيف وإراحته وتقديم الخدمات له بأسرع فرصة ممكنة، حتى لا يتحول أبسط المواقف إلى عبء كبير على الآخرين.
وفي مشهد آخر، شاهدت موظفة تنهي دوامها، لكنها لاحظت دمعة في عين زميلتها التي تواجه ظرفاً عائلياً صعباً. لم تغادر المكان. بقيت معها حتى هدأت، وقدمت لها دعماً معنوياً كبيراً لا يقاس بمال. ذاك الموقف كان أعظم قيمة من عشرات الخطب والدورات التدريبية في " امتلاك مهارات التواصل والعمل الجماعي ضمن فري قفعال ويناء قدرات الذكاء العاطفي في العمل مع الزملاء والزبائن".
وهناك مشهد ثالث لن أنساه: عامل بسيط في مؤسسة ما، لم يملك سوى أن يرفع يده دعاء لمديره الذي ساعده في ظرف صحي صعب كان في حجاة ماسة لذلك الدعم. قال يومها " والله لا أنسى ذلك موقفه معي ودعمه لي طول العمر". عندها أدركت أن بعض الأعمال الصغيرة تصنع أثراً عظيماً يتجاوز الزمن والمناصب والأموال التي تقدم لمحتاجيها.
قيمة المساندة… من الدنيا إلى الآخرة
إن أجمل ما في المشاهد الإنسانية أنها تعود إلى أصحابها، إما بهجة في الدنيا، أو تيسيراً وتسهيلاً للأمور في حياتهم، أو دعاءً صادقاً يرفع البلاء ويحمي المرء من ثرات الزمان وتقلباته، أو بركة لا نعرف مصدرها وكنهها. وربما يقع أحدنا في يوم من الأيام تحت وطأة الاختبار والامتحان، فيكون أحوج ما يكون ليد تمتد إليه لتسعفه وتنتشله من دركات ومصائب الدنيا، أو كلمة تنصفه، أو موقف يشبه الذي قدمه يوماً لغيره.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من نفَّس عن مؤمن كربة من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». رواه مسلم
هذا الحديث ليس مجرد نص ديني، بل قانون كوني: ما تقدمه يعود إليك، وما تمنحه يعود مضاعفاً في وقت أنت أحوج إليه للخير والأجر العظيم.
ختاماً: تبقى إنسانيتنا هي رأس مالنا الحقيقي والاستثمار الذي يدر علينا الخير والبركة.
وتبقى المواقف الصادقة هي التي تخلد أسماءنا في سجلات قد تمتد ليوم القيامة.
وفي عالمٍ يمتلئ بالضغوط والصراعات، فإن أعظم ادخار يمكن أن نحققه هو أن نكون سنداً وعوناً لغيرنا. فالإنسان أولاً،،،، وسيظل وسيبقى أولوية مهما تغيرت الظروف والمواقف.
***
بقلم: د. أكرم عثمان
19-11-2025






