قضايا

مصطفى غلمان: المَوْتُ كَرَفِيقٍ دَائِمٍ وَالحَيَاةُ كَرِحْلَةٍ عَبْرَ الغِيَابِ

ألبير كامو: إن الموت ليس نهاية، بل نهاية النهايات."

و"الحياة تبدأ حيث نتقبل العبث."

نحن نعيش في صحبة الموت منذ اللحظة الأولى التي نفتح فيها أعيننا على العالم، وحتى اللحظة التي يغلق فيها الزمن أعيننا إلى الأبد. كما قال جان بودريار: "العيش ليس سوى أن نموت ونحن أحياء". ليس في قوله دعوة إلى اليأس، بل اعتراف بأن كل لحظة حياة هي امتداد لوعي محدود بمصير نهائي، وأن كل تنفس، وكل خطوة، وكل كلمة هي مواجهة مستمرة مع الغياب.

في ولادة كل إنسان، يولد أيضًا موته المحتمل. وكأن الحياة تضع على كتفنا عبء الزمن الموعود بالنهاية. لكن بالمقابل، في موت كل شيء، هناك بذرة ولادة أخرى، وعي جديد، تجربة داخلية، إدراك لطيف أو قاسٍ للغياب الذي يعيد تشكيل فهمنا للوجود. ربما يكون الموت ولادة للوعي، كما قد تكون الولادة إعلانًا عن بداية رحلتنا نحو النهاية. هذا الانعكاس المستمر هو ما يجعل الوجود مشحونًا بالغموض والدهشة، ويمنحه ثقلاً فلسفيًا لا يمكن تجاهله.

إن خوفنا من الموت يبدو فطريًا، محفورًا في أعماقنا البيولوجية. لكنه يصبح أعمق وأشدّ حين يحضر الموت في حياتنا المباشرة. حين نفقد من نحب، حين نلمس غياب الأمان، حين تتحطم رتابة الحياة أمام واقع لا يمكن التراجع عنه. في هذه اللحظات، ندرك أن الموت ليس فكرة مجردة، بل حقيقة ملموسة، وأن الخوف ليس مجرد شعور، بل تجربة معرفية وروحية، تجبرنا على إعادة ترتيب علاقتنا بالوجود.

كما أن التفكير الفلسفي بالموت، على العكس من الخوف الفطري، يتيح للإنسان ممارسة حرية وجودية حقيقية. حين نعي الموت، نصبح قادرين على التساؤل عن معنى الحياة، عن حدود الفعل الإنساني، عن علاقتنا بالآخرين والزمان والمكان. وهذا الوعي، الذي غالبًا ما يكون مؤلمًا، هو في الوقت نفسه ما يجعلنا أحياء بعمق، عميقًا كفكرة لا يمكن أن تنتهي.

بيد أن الأسطورة كانت دائمًا ملاذًا للإنسان للتعامل مع الموت، ومع كل ما هو غائب وغير مرئي. فيها، يتحول الغياب إلى وجود معنوي، والموت إلى مساحة رمزية للتجربة الإنسانية. الكائنات الأسطورية، والحكايات التي تحكي عن الأرواح والعالم الآخر، ليست مجرد خيال، بل أدوات لإضاءة الظلال، لفهم حدودنا، ولمواءمة أنفسنا مع اللاوعي الجمعي.

وحين نحيا في هذه الأساطير، نتماهي مع ما لا نستطيع رؤيته، ونشارك في حضور الموت والغائب بشكل يتجاوز الخوف المباشر، لنصنع معنى وجوديًا عميقًا. الغياب هنا ليس فراغًا، بل حضور يمتد في الوعي ويشكل مساحة للخيال، للحنين، وللتأمل الفلسفي العميق.

الموت والولادة ليسا نهايتين، بل حلقتين متبادلتين في زمن الوجود. كل ولادة تحوي في طياتها الموت المحتمل، وكل موت يولد وعيًا جديدًا أو تجربة فكرية. الحياة، كما أراها إذن، ليست سوى رحلة مستمرة عبر هذا الجدل الوجودي، مواجهة الغياب، التحسس بالفراغ، والبحث عن معنى في اللحظات العابرة، حيث يلتقي الخوف بالوعي، والموت بالولادة، والأسطورة بالحقيقة.

وفي نهاية المطاف، الإنسان لا ينتظر الموت ليعي الحياة، بل يعيش في صحبته الدائمة، كل يوم وكل لحظة، محاولًا أن يجد في الوعي بالموت ما يثري الحياة، وفي غياب الآخر ما يمنحه معنى وجوديًا، وفي الأسطورة ما يساعده على مواجهة ما لا يُرى ولا يُدرك إلا بالخيال والتأمل.

في خضم هذا الجدل الأبدي بين الموت والولادة، بين الغياب والحضور، ندرك أن حياتنا ليست سوى شعلة تتأرجح بين الظلال والضوء. كل لحظة نفقد فيها شيئًا، أو نودع وجهًا، أو نلمس غيابًا، هي في الوقت ذاته بوابة ولادة جديدة للوعي، وفرصة لإدراك عمق الوجود. الأسطورة، والخوف، والتجربة، والموت، ليست نهايات بل رفقاء رحلتنا الدائمة، يعلّموننا أن نحب الحياة بشغف، أن نحتضن الفقد، وأن نصغي للصمت الذي يسبق كل بداية.

فلنحيا إذًا في صحبة هذا الغياب، ليس بقلق أو رهبة، بل بوعي ممتد، حيث كل نفَس يحمل إمكانية ولادة جديدة، وكل قلب يلمس الموت يكتشف سرًا من أسرار الحياة. ففي النهاية، الحياة والموت ليسا متضادين، بل رقصة متواصلة، نحياها ونحن أحياء، ونحملها معنا حين نرحل.

في النهاية، يبدو أننا نسير في الحياة برفقة الغياب، نحتضن الموت كما نحتضن هواء الصباح، صامتًا، لكنه حاضر في كل نفسٍ نأخذه. كل لحظة تمرّ هي تذكرة بأننا هنا، وأن حضورنا مؤقت، وأن الغياب ليس نهاية بل مساحة للمعنى، لكل صمتٍ في القلب صدى للحياة. فالعيش الحقيقي ليس انتظار النهاية، بل إدراك أن كل فجر هو ولادة، وكل وداع هو درس في العمق والشفافية. وبهذه المعرفة، نصبح قادرين على عيش كل لحظة بصدق، نحتضن الفرح والحزن كما يحتضن الرمل ندى الصحراء، مدركين أن الحياة والموت وجهان لعملة واحدة، وأن كل غيابٍ صغير أو كبير يعلّمنا أن نكون أكثر إنسانية، وأكثر وفاءً لأنفسنا وللحظة، لأننا، حتى ونحن نموت، نعيش على الدوام.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

في المثقف اليوم