قضايا

قاسم حسين صالح: مع الدين ضد الدين (4): فرانكل مع الدين

لموقف فرانكل (1905-1997) الايجابي من الدين واقعة في منتهى القسوة. فهو طبيب نفسي نمساوي أمضى خلال الحرب العالمية الثانية ثلاث سنوات في أحد المعسكرات النازية، وكان وقتها أستاذا لعلم الأعصاب والطب النفسي بجامعة فينا. وكان والده وأخوه وزوجته مسجونين ايضا وقد لقوا حتفهم في معسكرات الموت أو أرسلوهم الى أفران الاعدام بالغاز. وعن هذه التجربة القاسية والمرعبة أصدر في عام 1959كتابا بعنوان (من معسكر الموت الى الوجودية)، أعاد طبعه في عام 1963 بعنوان جديد هو (الانسان يبحث عن المعنى) وصف فيه الاذلال والمهانة والرعب والتعذيب التي عاشها في السجن، وشرح كيف استطاع هو وآخرون أن يعيشوا نفسيا في ظروف معسكر الموت. واستنتج فرانكل بأنه استطاع أن يحافظ على توازنه الانفعالي لكونه نجح في ايجاد معنى لمعاناته المريرة التي ربطها بحياته الروحية. ورأى أن روحه هي التي أعطته الحرية لتجاوز ظروف فرص البقاء فيها ضئيلة. واكتشف أن بداخله طاقة ورؤية مستقبلية ترفعه فوق ظروف القهر والسجن والجوع والبرد والقسوة.. وتوقع الابادة في كل ساعة.

والذي جعل فرانكل يتحول من منهجه الفرويدي الى منهج روحي وجودي هو أنه لاحظ أن السجناء الذين كانوا معه في معسكر الاعتقال كانوا على نوعين، الأول: شحبت وجوههم و هزلت أجسامهم وصاروا جلدا على عظم، والثاني :صمدوا  وظلوا في صحة جسمية ونفسية أفضل..وتبين له، بعد دراستهم، أن الصنف الأول فقدوا الأمل في الخلاص وصاروا كالمحكوم بالاعدام الذي ينتظر لحظة التنفيذ، فيما النوع الثاني كان لديهم ايمان ديني او روحي منحهم القدرة على تحمل المعاناة والتعلق بالحياة.

ويعتقد فرانكل ان الامراض النفسية وبخاصة الكبت تنشأ حين لا يكون للفرد غرض او هدف في العيش او الحياة، وأن الانسان  يكون أكثر مقاومة للمرض النفسي وأسرع تعافيا منه اذا كان في حياته معنى يشكل له هدفا وغاية، وأن الايمان من أهم المعاني التي تمنح لحياة الانسان معنى وجدوى، ويكون لوجوده أهمية ومغزى. وبتعبير جوردن البورت في مقدمته لكتاب فرانكل (الانسان يبحث عن المعنى): " هنا نقف على الفكرة الرئيسة للوجودية: فلكي تعيش عليك أن تعاني، ولكي تبقى عليك أن تجد معنى للمعاناة. واذا كان هنالك هدف في الحياة، فانه يوجد بالتالي هدف في المعاناة وفي الموت ". ويذكر فرانكل أنه وجد في بعض الأحيان معنى في الموت، اذ يموت الانسان سعيدا من أجل معنى ديني أو روحي أو وطني. هذا يعني أنه عكس سارتر الذي وصف الموت بأنه نهاية سخيفة.

وقد استخدم فرانكل طريقة جديدة في العلاج النفسي أسماها (العلاج بالمعنى Logo Therapy) يوظّف فيها الأفكار والنصوص الدينية التي يعتقد بها المريض في تصحيح ما لديه من أفكار مرضية أو مغلوطة. وابتكر نوعا جديدا من العصاب أسماه (عصاب اللامعنى أو الفراغ الوجودي) حدد أهم أعراضه بالشعور بالملل والتعاسة والفراغ الداخلي وعدم الرضا والاحساس بأن الحياة لا لون ولا طعم لها بالرغم من أنه لا يوجد سبب واضح لهذه الأعراض. ويعزو فرانكل أسباب العزلة والاغتراب الى فشل صاحب المعاناة في أن يجد معنى واحساسا بالمسؤولية ازاء وجوده. وبهذه الانجازات فقد عدّته مجلة تايم الأمريكية بأنه يمثل المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي بعد فرويد وأدلر.

وقد عبّر فرانكل عن المعنى عبر ثلاثة انواع من القيم هي: قيم الخبرة " التي تتحقق من خلال الوجود المدرك في العالم"، والقيم الابداعية " التي تتحقق من خلال الفعل المباشر في العالم "، وقيم الاتجاه " التي يتوقف تحقيقها على وعي الفرد، وتكون ممكنة حتى حين يحال التعبير عن قيم الخبرة والقيم الابداعية ".

ونوضّح، من جانبنا، أن في الفلسفة الوجودية فريقين من الوجوديين، الأول: الوجوديون المؤمنون، ويمثلهم جابريل مارسيل وكارل يسبرز من الفلاسفة، وفرانكل من علماء الطب النفسي. والثاني: الوجوديون الملحدون، ويمثلهم هايدجر وسارتر من الفلاسفة، ورولو مي من علماء النفس.

ويرى الفريق الأول (المؤمنون) أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها، ثم بعد ذلك يختلف الناس ويتباينون، فيما ينكر الفريق الثاني (الملحدون) أن للانسان شيئا أسمه الطبيعة البشرية، لأنه لا يوجد الرّب الذي تمثل وجود هذه الطبيعة، كما يرون.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم