قضايا
أكرم عثمان: العقلية الذهنية بين التنشئة والتربية والعمل والمجتمع
العقلية الذهنية ليست مجرد طريقة في التفكير أو أسلوب في اتخاذ القرار، بل هي انعكاس لما تراكم في الإنسان من خبرات تربوية وتفاعلات أسرية ومدرسية ومهنية ومجتمعية. إنها خلاصة التجربة الإنسانية التي تظهر في المواقف اليومية، وفي فهم الحياة بكل تشعباتها وفروعها، وهي أيضاً أسلوب التعامل مع الآخرين، وطريقة إدارة الذات قبل العمل. فما نراه من مرونة أو انغلاق، وتقبّل أو تعصب، ليس وليد اللحظة، ولم يكن خبط عشواء، بل هو نتيجة سنوات من التربية والتجارب المتراكمة.
تمثل الأسرة الجذر الأول في تكوين العقلية، فهي التي تزرع بذور المرونة أو الانغلاق، والثقة أو الخوف، والانفتاح أو الكبت. حين يتعامل الوالدان مع أبنائهما باحترام ويمنحانهما فرصة التعبير عن آرائهما دون خوف أو سخرية، فإنهما يرسّخان عقلية مرنة ناقدة واثقة من ذاتها.
فالطفل الذي يُسأل عن رأيه في قرارات بسيطة، كاختيار مكان الرحلة التي يريد الذهاب إليها، أو ترتيب غرفته، أو تحديد موعد دراسته ومذاكرته، ينشأ وهو يشعر أن لرأيه قيمة وشأناً، وأنه محل اهتمام وأنظار من حوله، فيتعلم المسؤولية والثقة بالنفس. أما الطفل الذي يعيش في بيئة يُقمع فيها صوته ويُستهزأ بآرائه ويتعرض للتوبيخ المستمر، فإنه يتعلم الخضوع والخوف من الخطأ، أو الغضب والعناد كرد فعل على القمع الذي يواجهه، وتنغلق مداركه داخل دائرة الطاعة العمياء.
فالبيت الذي يزرع الحرية الفكرية والاحترام يخرج إنسانًا واثقاص بنفسه ومنفتحاً على الآخرين، قادراً على تقبل أفكارهم ومشاعرهم براحة وثقة، بينما البيت القائم على الخوف والسلطوية يخرج عقلية هشة تخشى المبادرة وتهاب التغيير. وشتان ما بين عقلية مرنة وأخرى متصلبة لا ترى في الحياة سوى القمع والقسوة سبيلاً.
وتسهم المدرسة في توسيع الدائرة الاجتماعية للطالب، إذ يبدأ بالتفاعل مع أنماط مختلفة من الزملاء والمعلمين، وهنا يتضح أثر البيئة التربوية في صقل العقلية أو تقييدها. فالمعلم الذي يحترم الأفكار والآراء، ويشجع الطلبة على التفكير الناقد، ويتيح لهم مساحة للإجابة حتى وإن كانت خاطئة، يعلمهم أن المحاولة أهم من النتيجة. أما المعلم الذي يكبت المشاعر ويضيّق على طلابه ويسخر من أخطائهم أو يهمّشهم أمام زملائهم، فإنه يغرس فيهم الخوف من المشاركة ويقتل روح المبادرة والانطلاق.
في المدارس التي تعتمد التعلم القائم على المشروعات والعمل الجماعي وبناء الفريق، تتلاقح الأفكار ويظهر الإبداع، وتنمو مهارات القيادة والتفكير النقدي البناء الذي يصقل القدرات والطاقات داخل بوتقة العقلية المتفتحة، تلك التي توقظ ومضة العمل القائم على الاحترام والحرية في التعبير عن الرأي.
أما المدارس التي تقتصر على الحفظ والتلقين، وتمارس القمع في التعامل، وتهمل بناء الشخصية وتنميتها وفق مراحلها العمرية ومتطلباتها الجسدية والعقلية والنفسية والاجتماعية، فإنها تنتج طلبة ناقمين ومكبوتين، يجهلون فهم ذواتهم، ويفتقدون القدرة على توظيف إمكاناتهم. تراهم يعتمدون على الآخرين، ويخشون البوح بما في دواخلهم، ويعجزون عن حل مشكلاتهم أو اتخاذ القرارات المناسبة لحاضرهم ومستقبلهم. وهكذا، فالمؤسسات التعليمية التي تؤمن بالحوار والتفاعل هي التي تبني العقول المتفتحة القادرة على التكيّف والانسجام مع محيطها، المنتجة والمبدعة والمبتكرة.
وتثمل بيئة العمل الامتداد الطبيعي للتنشئة، فهي الميدان الذي تختبر فيه نتائج التربية الأسرية والمدرسية.
فالموظف الذي نشأ في بيئة يتواجد فيها قادة مؤثرون وإيجابيون، تحترم رأيه وتشجعه على الحوار، يميل إلى التعاون والعمل بروح الفريق، ويستطيع التعبير عن أفكاره بوضوح واتزان. أما من تربى في بيئة قمعية تسلطية ومركزية، فيميل إلى السلبية، ويتجنب المشاركة، ويخاف من اتخاذ القرار أو تحمّل المسؤولية.
وفي المؤسسات التي تتبنى أسلوب الاجتماعات المفتوحة، حيث يمكن لأي موظف اقتراح فكرة بحرية، ترتفع روح الفريق ويزدهر الإبداع والنجاح المهني. إن بيئة العمل التي تحتضن الحوار والاحترام المتبادل تنتج عقلية منفتحة مبدعة، بينما البيئات المغلقة تكرّر الماضي دون وعي، وتقتل روح المبادرة والتميز.
إن العقلية الذهنية تمتد كذلك إلى سلوك الفرد في المجتمع؛ فصاحب العقلية المرنة يتعامل بود ولطف وتسامح، ويقبل الاختلاف بوصفه فرصة للحوار والنقاش وتوليد الأفكار الإبداعية الخلاقة، ويستمع قبل أن يحكم، ويتعلم من تجاربه مهما كانت مؤلمة أو قاسية. أما صاحب العقلية المنغلقة فيعيش في صراع دائم، يرى العالم بمنظار أسود ضيق، ويرفض الاعتراف بالخطأ، بل يبرره حفاظاً على صورته ومركزيته.
في نقاش اجتماعي على سبيل المثال لا الحصر، قد يقول أحدهم: "ربما وجهة نظرك صحيحة في جانب منها، دعنا نتأملها." بينما يرد آخر بعنف: "هذا الكلام مرفوض تمامًا!" دون أن يمنح نفسه فرصة للتفكير.
فالأول يبني الجسور، والثاني يبني الجدران والأسوار.
إن إعادة تشكيل العقلية المرنة تحتاج إلى تربية مستمرة على الحوار والاحترام والمسؤولية المشتركة، وإعطاء مساحة كافية للتعبير ضمن ضوابط قيمية وأخلاقية، مع تغذية راجعة إيجابية وتشجيع على الاعتراف بالخطأ والتعلم منه.
فالعقلية المنفتحة ليست هبة فطرية، بل ثمرة تربية وتنشئة وممارسات طويلة تبدأ في البيت، وتنضج في المدرسة، وتثمر في العمل والحياة. نحن لا نولد بعقلية منفتحة أو مغلقة، بل نصبح كذلك بفعل تجاربنا ومواقفنا.
وكل بيت ومدرسة ومؤسسة تشكل بطريقتها هذا الوعي الجمعي الذي يرسم ملامح المجتمع. ولكي ننهض بأجيالنا ومؤسساتنا، علينا أن نزرع فيهم المرونة والتفكير النقدي والإصغاء الواعي، فهي مفاتيح النجاح في زمن تتسارع فيه المتغيرات. فالعقلية التي تقبل التعلم والتغيير هي التي تصنع الحياة، أما التي تتشبث بالماضي فستظل عالقة في ظله مهما تغير الزمان.
***
د. أكرم عثمان
30/10/2025






