قضايا

غريب دوحي: (فانوس) ديوجنيس والبحث عن الحقيقة

أثينا مسقط رأس الفلسفة ومنتجع العلم وملهمة العالم حضارة راقية شعت بأنوارها شرقاً وغرباً. والفلسفة من حيث معناها اللغوي حب الحكمة واصطلاحاً البحث عن الحقيقة والوجود المطلق. (والحقيقة) هذه الكلمة التي دوخت الأنبياء والفلاسفة والمصلحين والقادة والأحزاب ليس الوصول إليها سهلاً وقلة هم الذين يبحثون عنها في نزاهة وتجرد من الأهواء سواء كانت قومية أو دينية أو مصلحية ولم ينحصر البحث عنها في شخص واحد أو في عصر من العصور فكل مراحل التاريخ كانت مفتوحة للبحث عنها وكل مكان في الأرض كان مسرحاً لتسليط الأضواء عليها وهكذا ظهرت الأديان من أجل إجلاء معالمها فكانت الأديان الوضعية (الأرضية) والتي كانت في الواقع وأكثر التصاقا به من الأديان التي نشأت بعدها والتي سميت (الأديان السماوية) لأن مشاكل الأرض لا تحل من السماء بل من الأرض فزادت الأديان السماوية الأمر تعقيداً والغموض غموضاً لأن هذه الأديان متناقضة إلى حد التقاطع ومتصارعة إلى حد الاقتتال بالسيف وهكذا عانت البشرية الشيء الكثير من الاضطهاد والاستعباد رغم أن هذه الأديان أخذت تمني الإنسان المحروم بما يعوضه في حياة أخرى موهومة ينعم فيها بحياة هانئة، انها مجرد وعود تخديرية ليس إلا.

أعود مرة أخرى للبحث عن الحقيقة فقد حاول بوذا حيث ترك حياة الملوكية والبذخ والعيش الهانيء وراح يجوب القفار والغابات للبحث عنها وكذا فعل سقراط وإفلاطون وأرسطو وابن رشد ثم ظهر ديكارت صاحب نظرية (الشك) وبعده فرنسيس بيكون الذي حدد العقبات التي تقف بوجه الإنسان للوصول غلى الحقائق بما أسماه بالأوثان الأربعة وهي: القبيلة والكهف والسوق والمسرح. فلم تستطع كل فلسفات العالم وأديانه وأحزابه الوصول إلى الحقيقة فما أصعبها.

وديوجنيس هذا فيلسوف يوناني عاش في الفترة بين (404 – 323 ق.م) وقيل أنه كان يسكن في برميل خمر ويتجول نهاراً في شوارع أثينا وبيده مصباح موقد وحين يسأله الناس عن جدوى هذا المصباح في وضح النهار وضوء الشمس الساطعة يكون جوابه: أنا أبحث عن الحقيقة.

ديوجنيس رفض كل شيء عن الواقع المحسوس وأنكر تعدد الآلهة وجميع العبادات الدينية وقال عنها أنها مخترعات بشرية محضة زائدة عن الحاجة (كما أنه وجماعته من المدرسة الفلسفية التي ينتمون إليها احتقروا الغنى وزهدوا في اللذائذ واعتبروا العمل الشاق المؤلم أمور نافعة للإنسان تساعده على تحقيق الفضيلة ولم يحترموا القوانين والأعراف التي درج عليها أبناء زمانهم وكانوا يرتكبون ما يتحرج الناس من فعله من غير خشية ولا احتشام وكانوا في ذلك كالكلاب فأطلق عليهم أهل زمانهم أسم الكلبيين) مباديء الفلسفة – زايوبرت، ترجمة أحمد أمين، ص94، الهامش.

فإذا كانت الحقيقة لا تدرك بسهولة ويسر وعجز عن ذلك فلاسفة وأديان فليس من حق يونانيين آخرين أن يضحكوا أو يبكوا على الحالة التي وصلت إليها الإنسانية في تخبطها وفي عبثها اللامجدي عن الحقائق الضائعة فالفيلسوف اليوناني ديموقريطس (460 – 370 ق. م) اعتبر الحالة البشرية مضحكة باطلة فما ظهر بين الناس يوماً إلا وضحك والسخرية ملء وجهه فسمي بذلك الفيلسوف الضاحك.

إما الفيلسوف اليوناني هرقليطس (540 – 480 ق. م) فقد أشفق على الحالة البشرية وعطف عليها فما انقشع الأسى عن وجهه يوماً وما خلت عيناه من الدموع فاستحق لذلك أن يسمى الفيلسوف الباكي.

وأخيراً فإن الحقيقة لا تدرك بالوحي والإلهام وإنما تدرك بالعقل فالحقيقة موجودة ولكنها غائبة وراء الكواليس ولو اجتمعت كل فوانيس العالم للبحث عنها.

***

غريب دوحي

في المثقف اليوم