قضايا

عبده حقي: من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب

المملكة المغربية، الأرض الضاربة في عمق التاريخ الغني والفسيفساء الثقافي النابض بالحياة، تتنقل بدورها كباقي دول المعمور العريقة في هذا المشهد الرقمي الراهن والمتشابك حيث تلوح الإنترنت والذكاء الاصطناعي بعصر مزدهر من التواصل الفائق وتدفق هائل لأنهار من المعلومات والبيانات الضخمة.

وبينما توفر هذه التطورات التكنولوجية إمكانيات مثيرة للغاية ، فإنها تمثل أيضًا تحديات لخصوصية الهوية الثقافية المتفردة للمغرب.

إن التراث الثقافي المغربي هو مدارة التقاء الروافد الأمازيغية والعربية والإفريقية والأندلسية. والدين الإسلامي الحنيف يعتبر بمثابة العماد العقائدي الذي تقوم عليه الدولة منذ إثنا عشر قرنا، وكياننا الرصين متشابك مع تقاليدنا الأمازيغية العريقة وغني بالمرجعيات الدينية وخصوصا الإسلامية واليهودية.

إن هذه الفسيفساء الرائعة والملهمة تتألق بتنوعها المتأصل، والذي يتم التعبير عنه من خلال الموسيقى العريقة النابضة بالحياة وسرود الحكايات الشعبية وآلاف القصائد الملحونية الحكيمة وأطباق الأطعمة والتصاميم المعمارية القديمة والعصرية..إلخ

ومع ذلك، فإن هذا التنوع الغني والمتفرد في المنطقة العربية يصطدم بتحديًات العصر الرقمي إذ يمكن لشبكة الإنترنت، بميولاتها المتشابكة وإمكاناتها كفضاءات لترديد الصدى، أن تؤدي عن غير قصد إلى التآكل المبطن لهذا النسيج الفسيفسائي حيث التدفق لهذا المحتوى الأجنبي، الذي غالبا ما يفتقر إلى التنخيل وإلى السياق المرغوب فيه أو لا يراعي القيم المغربية قبل كل شيء، يمكن أن يخلق فينا شعورا بالاغتراب الداخلي ويقوض تماسكنا الثقافي الجماعي.

فعلى مستوى التجانس الثقافي يمكن للسرديات الأدبية والترفيهية الغربية المسيطرة على العالم في الوقت الراهن أن تطفو على المحتوى المغربي المحلي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى الشعور بمركب النقص الثقافي وإذكاء الرغبة في محاكاة الآخر وتقليد التيارات الأجنبية الوافدة عبر الطرق السيارة الرقمية ، مما قد يؤدي أخيرا إلى اضمحلال تقاليدنا المغربية.

إنه لم يعد خاف على أحد أن شبكة الإنترنت تزدحم بالمعلومات المضللة والملغومة. وهذا يمكن أن يؤدي إلى إذكاء لمختلف التوترات والنعرات الإثنوغرافية والسياسية ، مما سيشكل عائقا لترسيخ الوحدة الوطنية من الشمال إلى الجنوب أي من مدينة طنجة بوابة المغرب نحو أوروبا إلى مدينة الداخلة جنوب الصحراء المغربية بوابتنا نحو القارة الإفريقية .

يمكن لطبيعة شبكة الإنترنت غير المفلترة أن تعرض المواطنين، وخاصة الشباب منهم، لمحتوى يتناقض مع القيم والأعراف الاجتماعية. وهذا يمكن أن يؤدي إلى اختلالات أخلاقية وتراجع في التماسك الاجتماعي.

يمكن لخريطة الطريق الهندسة الثقافية ، عندما يتم توظيفها بشكل رصين ومدروس، أن تكون بمثابة درعا قويا لمواجهة هذه الاتجاهات السلبية والهدامة لشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال دعم إنشاء المحتوى المحلي حيث يعد تشجيع ودعم إنشاء محتوى مغربي أصيل وعالي الجودة عبر مختلف المنصات الإعلامية الورقية منها والرقمية أمرًا بالغ الأهمية. يمكن أن يشمل ذلك مختلف فنون التعبير مثل الموسيقى والأفلام الروائية والوثائقية والمواد التعليمية التي تحتفي بالثقافة والتراث المغربي.

كذلك من خلال المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي حيث إن تزويد المواطنين بمهارات القراءة والكتابة الرقمية يمكّنهم من تمييز المعلومات الموثوقة من المغلوطة. إن مهارات التفكير النقدي ستسمح لهم بتقييم المحتوى عبر شبكة الإنترنت من خلال مجهر ثقافي مغربي أصيل.

وتطوير التواجد القوي على شبكة الإنترنت باللغتين العربية والأمازيغية يمكن أن يؤمن وصولاً أوسع للمحتوى المغربي ومواجهة هيمنة اللغات الأجنبية على الإنترنت.

كما إن رقمنة وأرشفة التراث الثقافي المغربي، من الموسيقى التقليدية إلى المواقع التاريخية والمخطوطات القديمة ، سيضمن إمكانية الولوج إليها والحفاظ عليها للأجيال القادمة.

ومما لاشك فيه أن الذكاء الاصطناعي من جانبه يمكن أن يكون وسيلة قيمة في جهود إرساء هندسة ثقافية ناجعة. هناك بعض التطبيقات المحتملة التي تشمل إنشاء المحتوى حيث يمكن للأدوات المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد في إنشاء محتوى جذاب وذي صلة ثقافيا بالهوية المغربية ، مثل الألعاب التعليمية أو تجارب سرد الحكايات التفاعلية التي تحتفي بالتقاليد المغربية.

ومن جانب آخر يمكن لأدوات وكفايات تعلم اللغة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تساعد المغاربة في الوصول إلى المحتوى عبر الإنترنت بلغات أخرى مع الحفاظ على المحتوى الخاص بهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأدوات الترجمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي ضمان وصول أوسع للمحتوى المغربي المترجم إلى لغات كونية أخرى.

وعلى مستوى الإشراف على مكونات المحتوى يمكن تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحديد المحتوى المسيء أو الذي لا يحترم القيم المغربية والمؤسسات السياسية والإبلاغ عنه. ومع ذلك، يجب النظر بعناية لتجنب الرقابة أو التضييق على المعارضة الفكرية المشروعة.

ويجب أن تحقق جهود الهندسة الثقافية كذلك توازناً دقيقاً بين الحفاظ على التراث الثقافي وتكريس الانفتاح على العالم الخارجي حيث سيستفيد المكون الثقافي المغربي الغني من التبادل الثقافي السليم. والهدف هو ضمان دمج التأثيرات الأجنبية بشكل مدروس وعقلاني ورصين، وإثراء الثقافة المغربية من خلال المثاقفة دون المساس بقيمها الأساسية.

إن حماية الهوية الثقافية المغربية في العصر الرقمي تتطلب مجهودات تشاركية مكثفة حيث يمكن للحكومة من خلال وزارة الثقافة والاتصال إلى جانب المجتمع المدني أن يلعبا دوراً حاسماً من خلال دعم المبادرات التي تدعم منتوج المحتوى المحلي، ومحو الأمية الرقمية، والحفاظ على الثقافة عبر شبكة الإنترنت. بالإضافة إلى ذلك، يمكنها بلورة قوانين عمل لتطوير الذكاء الاصطناعي المسؤول والإشراف على المحتوى.

أما على مستوى المؤسسات التعليمية بكل أسلاكها فيجب أن تلعب دورًا حيويًا في دمج المعرفة الرقمية ومهارات التفكير النقدي في مناهجها الدراسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تشجيع إنشاء محتوى تعليمي يحتفي بالثقافة المغربية بجميع وجوهها وأشكالها الأدبية والفنية والفلكلورية.

أيضا على مستوى صناعة الإعلام بجميع أسانيده يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا من خلال إنتاج محتوى عالي الجودة يعكس الثقافة والقيم المغربية إذ يمكن أن يشمل ذلك الأفلام والبرامج التلفزيونية الجادة والهادفة والأشكال الموسيقية والمحتوى عبر الإنترنت الذي يلقى صدى لدى الجماهير الشابة.

ومما لاشك فيه أن منظمات المجتمع المدني يمكنها المساهمة من خلال رفع مستوى الوعي الجماهيري حول تحديات وفرص العصر الرقمي، ودعم السلوك المسؤول عبر الإنترنت، والدعوة إلى السياسات التي تدعم الحفاظ على الثقافة.

من جهة أخرى يلعب المواطنون دورًا حيويًا من خلال التفاعل النشط مع المحتوى المغربي عبر شبكة الإنترنت، والتقييم النقدي للمعلومات، وتعزيز شروط الحوار السوسيوثقافي المسؤول.

إن التراث الثقافي المغربي هو عبارة عن فسيفساء نابض بالحيوية الراسخة، وهو محبوك بخيوط من التقاليد والتنوع والابتكار. ومن خلال تبني آلية الهندسة الثقافية كأداة للوحدة والمرونة، يستطيع المغرب أن يبحر في العصر الرقمي بأمان مع الحفاظ على خصوصية هويته المتفردة. ومن خلال الجهد التشاركي، يستطيع المغرب الاستفادة من التكنولوجيا لإنشاء هوية رقمية مزدهرة تحتفي بتراثه الثقافي الغني مع البقاء منفتحًا على التأثيرات الإيجابية للعالم المترابط به.

يظل إذن مفهوم الهندسة الثقافية مفهوما ديناميكيا يتطور باستمرار جنبا إلى جنب مع التقدم التكنولوجي. ومع استمرار نمو إمكانات الذكاء الاصطناعي، سيكون من الأهمية بمكان ضمان استخدام هذه الأدوات بشكل أخلاقي ومسؤول في سياق الحفاظ على هوية الثقافة المغربية.

كما يجب أن تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعي المستخدمة لإنشاء المحتوى أو الإشراف عليه شفافة وخاضعة للمساءلة . وتساعد في بناء الثقة وضمان عدم استخدام هذه الأدوات لأغراض عنصرية أو تمييزية.

إنه من خلال تبني هذه الخارطة، يمكن للمغرب أن يضمن تكريس هندسته الثقافية كقوة من أجل الوحدة والخير العميم، وحماية هويته الثقافية المتفردة مع دعم مساحة رقمية مزدهرة تحتفي بالوحدة والتنوع والمرونة.

إن التراث الثقافي للمغرب وموقعه الجغرافي الإستراتيجي يجعله منارة للعالم، وشهادة فخر على قوة احتضان التنوع في إطار الوحدة والقيم المشتركة. وفي العصر الرقمي، يتمتع هذا الفسيفساء الغني بالقدرة على الازدهار عبر شبكة الإنترنت، والوصول إلى جمهور عالمي وإلهام جيل جديد. ومن خلال توظيف الهندسة الثقافية بشكل مدروس، يمكن للمغرب أن يضمن استمرار فسيفساءه الثقافي في التألق لأجيال قادمة.

***

عبده حقي

 

في المثقف اليوم