قضايا

محمد سيف: ذَوقُ المخالَطـــة.. وإكراهات العنف اللفظي

(منصة (X) نموذجا)

الطبيعة الإنسانية هي علائقية بالدرجة الأولى، بمختلف دوائر الاجتماع البشري من أسرة وبيئة عمل ونحوه، وما التفاعل الذي تعجّ به منصات التواصل الاجتماعي، إلا دائرة من تلك الدوائر التي تشغل حيزا كبيرا في تفاعلنا الإنساني، إن لم تكن الأكبر لأسباب متعددة، فهو عالم حقيقي لا افتراضي كما هو المفهوم السائد، لكننا ندخل إليه بنسخة معدّلة منّا بما تقتضيه الشخصية التي نريد أن نظهر بها للعالم سواء وراء معرّف حقيقي أو وهمي.

ولعل منصة (X) من بين أعلى منصات التواصل الاجتماعي التي تستحوذ على نصيب الأسد من التفاعل الكتابي في ارتباطه بـ (الترندات) والتي تعطي مؤشرا على الرأي العام لديموغرافيا محددة تجاه مسألة جدلية.

إن التفاعل الكتابي في منصة (X) يمثّل مساحة حيوية لمظاهر ذَوق المُخالطة، الذي أعني به هنا فن التعامل الحضاري في العلاقات الإنسانية، إلا أنّنا نشهد كيف أنّ هذا التفاعل الكتابي يرصد جانبا كبيرا من العنف اللفظي، خصوصا لدى طرح القضايا ذات الطابع الجدلي.

وأودّ أن أقدّم تعريفا للعنف اللفظي لأستند إليه في طرحي، فيكون: استعمال لغة هجومية مفرغة من الإنسانية، تتراوح من مجرد تراكيب ومفردات استعلائية إلى أقذع ألفاظ السباب والانتقاص والطعن في الشخوص.

إنّ الحَيدة عن لُبّ الأفكار - محلّ النقاش - صوب التعدي اللفظي على الآخر، أمسى مشهدا بديهيا في (الترندات) اليومية على منصة (X)، فأصبح عالم (الشخوص) متسيّدا عالم (الأفكار)، وهي ظاهرة لا تتواءم والانفتاح المعرفي والحضاري.

ولنا أن ندّعي أنّ هذا العنف اللفظي لا يأخذ نمطا مماثلا لِما لو كان النقاش وجها لوجه، ويزداد تكهرب الشحنة الهجومية فيما لو كان التفاعل يحدث عبر المعرفات الوهمية وليس الحسابات الشخصية، إذن عامل التخفي أو البُعد الفيزيائي له تأثيره على كثافة ونوعية العنف اللفظي الممارَس؛ والذي تزداد رعونته مقارنة بالوضع على الأرض.

وأراني مضطرا هنا للإشارة إلى أنني أجد صعوبة في مساواة العنف اللفظي بوصفه فعلا ابتدائيا معه بوصفه ردةَ فعل، ففي حين يكون الأول جليّ السوء، فإنّ الثاني يعكس قدرا معقولا من الطبيعة البشرية، والناس تختلف في الاستجابة، من التغاضي أو الرد بالتي هي أحسن، وحتى المعاملة بالمثل، بل وقد يصل الأمر إلى ردّ الصاع صاعين.

ومهما يكن، فإن علم نفس اللغة يقضي بوجود دوافع نفسية تُذْكي جذوة العنف اللفظي، سأتعرّض لبضعة دوافع منها، مع التنبيه على أنني لا أسعى إلى تخطئة مَن يصدر عنه العنف اللفظي بقدر ما أبغي تفهّم الدوافع وطرح بعض أدوات التحكم.

١. قصور الوعي في إدارة الشعور:

عند استعراض هرم غراهام للاختلاف، الذي يضم سبعة مستويات في كيفية الاستجابة للاختلاف في الآراء، فإنّ أول مستويين متعلقان بالوقوع في الطرف الآخر شتمًا وانتقاصا، فاللغة تَبَعٌ لمستوى الوعي، فإذا كان الوعي مُنمّطا بالتهجّم الشخصي في حالة الاختلاف فإنه يَعتبر العنف اللفظي التعبير الأمثل للرد على الرأي الآخر.

إن اللغة بطبيعتها حيادية، فحين تكون الاستجابة بالشخصنة يتم استحضار قاموس العنف اللفظي لأداء مهمته، والشعور عقبها بأريحية نفسية، وكأنّ حِملا كبيرا قد أُزيح عن العاتق، فالعنف اللفظي يصدر - فيما يصدر بسببه - لإشباع رغبة نفسية، وتضميد جرح غائر، فهو إسكات للصراخ الداخلي وتنفيسٌ عن مكبوتات متراكمة، وقد اعتبرتُ قصور الوعي دافعا للعنف اللفظي؛ كونه البيئة الحاضنة والمبارِكة والمبرِّرة، ففي هذا المستوى تكون لغة الاختلاف هي العنف اللفظي!

٢. الارتباط العاطفي:

من الطبيعي أن يخبو وَهج العنف اللفظي لدى الانخراط في مواضيع لا تشكّل أهمية بالغة، لكن ما إنْ يتصل الأمر بالانتماءات الذاتية كالدينية والوطنية والقبلية فإنك تكاد ترى نسخة متطرّفة من الشخصية المتزنة عادة، وفي الحقل الديني يكون الأمر أخطر؛ إذ يستمد العنف اللفظي شرعيّته من المقدّس، فيتحول المذموم إلى محمود بل وواجب، ويتم استحضار نصوص دينية في سياق الطعن الشخصي، فيكون العنف اللفظي مادةً تعكس الغيرة الدينية - بحسب تعبير المبررين - كما أنه يعدّ قُربةً يتعبّد بها مرتكبها، فيغدو الحطّ من المخالف الديني بما يضادّ الأخلاق الإنسانية سبيلا للذَّود عن حِمى الدين الذي يتم تصديره في الأساس حاميا لحياض الأخلاق!

إن التعلق العاطفي بالأفكار محل النقاش بسبب الانتماء، يُضعف التحكّم بالقاموس اللغوي، فيعيش (ذوقُ المخالَطة) أسوأ لحظاته، وعند عتبة الردود تُقطَّع أوصاله، وتُسقى الأرض بدمائه قربانا للانتماء!

٣. الاحتياج لأنْ نُسمع:

في تقديري أن محورية (أنْ نُسمَع) راجعة في الأساس لـ (الاحتياج للتقدير) وليس غريبا أن يضعه ماسلو ضمن هرمه المشهور للاحتياجات الإنسانية، ‏فنحن كائنات معبّرة ومدنية! ‏ولذا كانت ماهية تكويننا البشري تحتّم علينا الرغبة العارمة لأنْ نُسمع، ‏ونميل لمن يستمع لنا، ‏ونغبط مَن يجد قلبا ينصت لهواجسه مهما كانت ساذجة وواهمة.

فإذا كان ذلك كذلك، فإنّ أي قصور في تلبية هذه الحاجة حال النقاش ينبري العنف اللفظي يدًا تأخذ ما تراه حقَّها عنوة! فهو إعادة صياغة فَظّة لـ: أنت لا تكترث للاستماع إليّ.

٤. التشفّي الاجتماعي:

العَمْد إلى الهجوم اللفظي على الطرف الآخر على انفراد يكاد لا يعدّ شيئا بإزاء أن لو كان الهجوم ذاته أمام الملأ، فالنيل اللفظي من الإنسان وسط الأعين مؤذٍ لدرجة مهولة؛ لأنّ الاعتراف الاجتماعي ضرورة بشرية؛ ولذا لا يكون ثمّة تشويه ولا تشهير بلا مجتمع يشهد على ذلك، فيكون العنف اللفظي هنا ممارسة متعمَّدة ومنظَّمة وجماعية! والعقل الجمعي يستمرئ الهجوم اللفظي الأهوج على الشخوص تحت أي شمّاعة كانت، ويجد الأفراد مبررا وبيئة حاضنة ودعما اجتماعيا يرعى العنف اللفظي بهدف التحييد الاجتماعي.

هذا التطواف العام يجرّنا للبحث عن أدوات من شأنها أن تعيننا على التحكم بعنفنا اللفظي، مع الأخذ في الاعتبار أن العنف اللفظي قد يكون عَرَضا لمرض نفسي أو عاهة شخصية مزمنة كالتنمّر، وهذا له معالجة مختلفة، وفيما يلي عدة مقترحات تمثّل لَبِنة جادّة في بناء استجابة واعية ومسؤولة في التعبير عن الاختلاف:

١. خلق عادة التركيز على النقد الموضوعي، وإدراك أنّ الشخصنة تَشِي بضعف مستوى الإنسانية وتدنّي النضج المعرفي، علاوة على الظهور بمظهر ضعيف الحجة، إذْ اللجوء للهجوم على الطرف الآخر عوضا عن التعاطي الصحي مع جوهر الفكرة، هو هروب ينضح منه الافتقار للبراهين، فيتم تغطية العجز وتمويه الإفلاس من البرهان بمثل هذه الأساليب.

إنّ خلق هذه العادة البديلة ليس من السهولة بمكان، ولكن يمكن البدء بطرح هذا السؤال: أين محلّ النزاع؟ أي: أين موضع الاختلاف بين الرأيين؟ وفي ضوء ذلك يتم النظر في الحجج والحجج المضادة، هذه العادة من شأنها أن تجفف منابع العنف اللفظي إلى حد كبير، إذ يتم استدعاء الفكرة بدلا من الآخر المختلف، فيتم توجيه التركيز للوجهة الصحيحة، واللغة تَبَعٌ لهذا الاستدعاء الواعي، مع التأكيد على أنّ العادة حتى تترسّخ يجب التدريب عليها ردحًا من الزمن حتى تنتقل من منطقة الشعور إلى منطقة اللاشعور لتستقرّ ردةَ فعلٍ تلقائية فيما بعد.

٢. تجنّب الاسترسال مع أي طرف يوظّف العنف اللفظي في ردوده، سواء بالانسحاب أو بالتنبيه الصريح؛ حيث إن الردود اللطيفة في مقابل العنف اللفظي يُنظر إليها - في الجملة - على أنها ضربٌ من الضعف، والضعف يستميل الطرف الهجومي لزيادة وتيرة العنف اللفظي، كما أنّ استفزاز المعتاد على العنف اللفظي خاصة في المواضيع المتعلقة بالانتماءات سهلٌ للغاية، وبإمكان هذا الأسلوب أنْ يدفع الآخرين للتعرّف على منهجيتك الحوارية الحازمة، وفي المقابل تجنّب نفسك من الانزلاق إلى مستنقع اللغة السوقية.

٣. تدوين عبارات تعبّر بشكل صحي عن الاختلاف، والتدرّب عليها، حيث إنّ ذلك يساعد بشكل فعّال على ترويض ردة الفعل الارتجالية في المستوى اللاواعي على تراكيب مسؤولة، عِوَضا عن الأساليب الرعناء، فإيجاد البديل الحاضر في مستوى اللاشعور دافعٌ متين للعمل بالنهج الجديد في التحكم بانفعالاتنا اللفظية بوجه عام.

أود أن أُلملم طرحي بالزعم بأنّ التفاوت في الاستجابة اللغوية على المستوى الفردي يُحيل على وجود عدة قواميس لفظية للفرد الواحد - إن صحّ التعبير - ونحن نصطفي منها ما هو أليق وألصق وأوفق بالموقف، أو بشخصية محدد من شخصياتنا! بحسب مفهوم عالم النفس الأمريكي روجرز حول التمثيل الذاتي، دوائر روجرز متحدة المركز (Rogers Concentric circle) الذي يرى أن الذات تتمظهر في (٣) شخصيات، الشخصية الذاتية والشخصية الخاصة والشخصية العامة، فالشخصية الذاتية تكون خاصة بصاحبها، لا تشارك منطقتها غيرها كالأسرار والتخيّلات، وتكون هي المهيمنة في المعرفات الوهمية! وأمّا الشخصية الخاصة فهي تتضمّن ما تشاركه دائرتها المقربة من حبيب وصديق مقرب وعائلة، في حين تأتي الشخصية العامة لتمثّل ما تختار إظهاره أمام عموم الناس من اهتمامات وممارسات وغيره.

فالشخصية الأولى تمثّل الشخصية الحقيقية في أصدق تجلّياتها، وفي الثانية رغم نسختها المعدّلة يمكن أن تتلمّس فيها جوانب شفافة من الشخصية، فمع الأحبّة ترتفع الكُلفة، أما الثالثة فهي الأكثر تهذيبا وتشذيبا لتتواءم وأعرافَ المجتمع وإكراهات القوانين، ولكل شخصية قاموسها اللغوي الخاص! فحين تتم ممارسة العنف اللفظي رغم ذاك فهو بشكل ما خرقٌ لسمات الشخصية العامة، وكأن الشخصية الذاتية أو الخاصة تتعدى على حدود الشخصية العامة وتخترق فضاءاتها، سواء في حالات معدودة أو حالةً ذات ديمومة، وما هذا الاختراق إلا لداعٍ ذاتي قوي، يجب تفهّم جذوره النفسية، وإيجاد آلية جادة لضبطه.

***

بقلم: محمـــد سيـــف

في المثقف اليوم