قضايا
حاتم حميد محسن: كوميديا دانتي الإلهية وفلسفته السياسية

دانتي اليغيري هو شاعر ايطالي من أواخر القرون الوسطى، اشتهر بقصيدته الملحمية (الكوميديا الالهية). في هذه الملحمة، يناقش دانتي أفكارا مثل العدالة، كيف يجب ان يُحكم البلد، وكيف يمكن الوصول الى مجتمع مثالي – وهي أفكار لازال السياسيون يناقشونها حتى اليوم. يستخدم دانتي القصص الرمزية ليعبّرعن رؤاه حول موضوعات مثل السلطة، وما اذا كنا نستطيع الثقة بالقادة ام لا، وكيف يمكن ان يعيش جميع أفراد المجتمع مع بعضهم بانسجام. اذاً، ما الذي يخلق نظاما جيدا للحكم، طبقا لدانتي؟
منْ هو دانتي؟
ولد الشاعر الايطالي دانتي عام 1265 في فلورنسا، حين كانت جزءاً من الامبراطورية الرومانية المجيدة. ورغم ان هناك القليل ما يُعرف عن حياته المبكرة، لكن لا شك انه أصبح من أشهر الكتاب الايطاليين. أفضل عمل له هو (الكوميديا الالهية) بالأصل سميت (الكوميديا). تلقّى دانتي تعليمه في الادب الكلاسيكي وكان مشاركاً بعمق في السياسة المعاصرة – هذا المزيج خلق تناقضا ثريا طوال حياته وأعماله.
ومع ان دانتي ساند بقوة استقلال فلورنسا وكان عضوا في جماعة جيلف Guelph (التي ساندت البابوية ضد الامبراطور الروماني)، لكن نشاطه السياسي قاده للنفي عن فلورنسا بدءاً من عام 1302. هذه الفترة خارج بلده الأصلي أثّرت بعمق في رسم ملامح حياته، وهو ما تجلّى في الكثير من كتاباته. أثناء نفيه، سافر دانتي لمختلف الأماكن في ايطاليا. هنا، هو أنهى معظم أعماله الهامة بما في ذلك الكوميديا الالهية. انجازاته الادبية لعبت دورا كبيرا في تأسيس اللهجة التوسكانية التي كتب فيها كنموذج للّغة الايطالية.
يمكن ايضا العثور على نقاشات مفصلة في اللغة والعلوم والفلسفة السياسية في أعماله الاخرى، مثل (حول الفصاحة في الحديث العام) و (حول الملكية). توفي دانتي عام 1321 في رافينا التي أمضى بها السنوات الأخيرة من حياته.
السياق التاريخي والسياسي لعصر دانتي
في ايطاليا وأثناء القرنين الثالث عشر والرابع عشر، لم يكن هناك بلدا موحداً بل هناك أقاليم وامارات. هذا يتضمن فلورنسا والبندقية وميلان والتي كانت في صراع مع بعضها. كانت الاقاليم تُدار من قبل العوائل التجارية الثرية او الجماعات السياسية – الجماعتان الرئيسيتان كانتا الجلفيون والغيبليون. الجلفيون ساندوا سلطة البابا في المسائل الايطالية. اما الغيبليون ارادوا ان يكون القول الفصل لامبراطور الامبراطورية الرومانية . هذا الانقسام اثّر كثيرا على الحياة السياسية الايطالية، حيث استبدلت المدن حكامها بانتظام. كانت هناك الكثير من الصراعات بين الاقاليم. الدين لعب دورا حاسما في السياسة، وكذلك بالنسبه لمنْ يريد ان يصبح امبراطورا للامبراطورية. الكنيسة والامبراطور ايضا كانت لهما الكثير من السلطات على المناطق ذاتها (ليس فقط على القادة).
في تلك الاثناء، كان يمكن للبابوات ابلاغ الملوك بما يجب عمله – هم ايضا نظموا انفسهم في معركة ضد بعضهم البعض حيث كانت لهم خلافات مع البابوات او الرؤساء المحليين، بينما الاباطرة نُظر اليهم كأصحاب سلطات مشابهة على الشؤون اللادينية للحياة. دانتي كان عضوا في جماعة الجلف، وعلى الرغم من امتلاكه موقعا سياسيا في فلورنسا وانخراطه النشط في حكومتها، لكن تجربته الخاصة هناك شكلّت بوضوح رؤاه حول الموضوع. في عام 1302، وبعد ان استلمت السلطة جماعة الجلف السوداء المدعومة من البابوية، كان دانتي قد نُفي من مدينته الأصلية بتهمة الفساد وهي التهمة التي نفاها بشدة. هذه الكارثة الشخصية توضح لماذا الكثير من كتاباته السياسية تتعلق بالكيفية التي أساء بها الحكام لسلطاتهم ومسؤولياتهم تجاه الأخلاق ذاتها.
رؤية دانتي للملكية العالمية
يقترح دانتي خطة لحوكمة عالمية تتجاوز السياسة التافهة لبلده الأصلي ايطاليا. هو يدعو لحاكم علماني واحد للعالم الى جانب آخر يتولى المسائل الروحية، وبهذا يمنع الاحتكاك بين البابوات وأباطرة الامبراطورية الرومانية المجيدة، والذي يراه دانتي مدمراً.
طبقا لدانتي، مثل هذا الملك ستكون لديه قدرة أفضل للحكم بعدالة وفاعلية. اهتمامه سيكون لكل الانسانية وليس فقط لمدينة او جماعة واحدة. يرى دانتي ان هذه الشخصية ستساعد في حل الصراعات التي تبرز عندما تطالب مختلف الاقاليم بمناطق او سلطات متداخلة كما حصل في ايطاليا دانتي. هذه الفكرة تتعارض بشدة مع الطريقة التي عملت بها السياسة في ذلك الوقت. كانت ايطاليا تتألف من عدة ولايات متحاربة. كل من البابا والامبراطور يشاركان في السياسة. رؤية دانتي في الحكم الملكي لا تعني ملكا قمعيا وانما ملك فيلسوف مشابه لنموذج افلاطون – الذي سيكون منصفا عند عمل القرارات والحفاظ على السلام. هذا الهدوء سيمكّن الناس من التفكير حول ما هو خير والعمل المشترك لتحقيقه كمجموعة: شيء يدل على قدراتهم التي وهبها الله لهم.
أراد دانتي هذه الخطة الجديدة ليس فقط لأنه اعتقد انها ستكون أفضل مما كان في السابق ( سميت راديكالية) وانما ايضا بسبب انه اعتقد ان ايطاليا اعتادت بالضبط على هذا النوع من الحكم – وان هذا الحكم نال موافقة الله.
دور البابا والامبراطور
يعبّر دانتي في كتابه (حول الملكية) عن فلسفة سياسية تساعد في تقسيم المسؤوليات بين سلطات علمانية وروحية – تمثلت بالبابا والامبراطور – لكي يُسمح لكل طرف للعمل بفاعلية دون تعدّي على الآخر. في رؤية دانتي، سيكون البابا هو السلطة الروحية النهائية مع سلطة قضائية في المسائل الدينية وتوجيه أرواح الانسانية نحو خلاص أبدي. الامبراطور، بالمقابل، سيكون له نفوذ باعتباره أعلى قائد علماني مسؤول عن الحفاظ على الشرعية والنظام والعدالة هنا في الارض.
هذا الحكم المزدوج لم يكن فقط عمليا وانما هو ايضا مطلوب الهياً. كلا السلطتين لهما مهام متميزة كل واحدة تكمل الاخرى، تماما مثلما هناك مجالان منفصلان تغمرهما الشمس (تمثّل البابا) والقمر (يرمز الى الامبراطور)، حتى عندما يكون كلاهما كوكبان مضيئان في السماء.
ان أصل رؤية دانتي تكمن في فهمه للكتاب المقدس المسيحي والطريقة التي أسّس بها الله النظام الطبيعي. هو اعتقد انه بواسطة هذا النوع من الحكم الثنائي، يمكن للملكية بالنهاية تحقيق السلام والوحدة – شيء هو اعتقد يجب ان يكون هو الهدف. مثل هذا الفصل سوف يقلل من فرص الصدام الناجم بين شكلي السلطة، بما يمكّن كل طرف من الحكم بمزيد من العدالة والفاعلية قياسا بما لو كان كل طرف يقوم بكل شيء.
طبّق دانتي هذا البناء كنقد للطريقة التي كانت عليها الاشياء في زمانه. كان هناك احتكاك وتداخل بين الحكام العلمانيين والكنيسة، لكن نموذجه يقدّم حلا لهذه المشاكل.
العدالة والحوكمة في "الكوميديا الالهية"
في الكوميديا الالهية، يدمج المؤلف بذكاء قناعاته السياسية ضمن نسيج رحلته الرمزية عبر الجحيم، التطهير، الجنة. هذا الكتاب الاخلاقي المرشد هو أكثر من مجرد قصيدة ملحمية حول اللعنة والخلاص، هو يعكس افكار دانتي الشخصية حول الحكم الصحيح في كل مستوى من مستويات المجتمع. الجحيم تحت الارضInferno-hell (1) تسكنه الارواح المحكوم عليها بالعقوبة التي تتناسب مع جرائمها على الارض. من بين تلك الارواح العديد من القادة السياسيين ايام دانتي ذاته. هذا ليس مصادفة، يؤمن دانتي في العدالة التناسبية. البابوات الفاسدون والمسؤولون الآخرون الذين "باعوا" الامتيازات السياسية او انهم خانوا ثقة الشعب يمكن العثور عليهم في الحلقات السفلى من منطقة الجحيم، حيث يقاسون العذاب الملائم لأفعالهم الفاسدة. تعليقات دانتي كانت حول كل من الاخلاق الشخصية وكيف يتصرف أصحاب السلطة بعدالة.
منطقة التطهير purgatory هي المكان الذي يحصل به التطهير الاخلاقي لكي يمكن الوصول الى الجنة. الناس هناك يعملون لتصحيح عيوبهم في الحياة على الارض. هذا يبيّن ان دانتي يؤمن بانه بإمكان الناس التغيير نحو الأفضل ويرى ان الحوكمة الجيدة يجب ان تكون حول الاصلاح وكذلك العقوبة.
الجنة توصف كمكان للعدالة الالهية حيث تنعم الارواح بسعادة تامة في حضور الله. انها المكافأة النهائية للعيش الصحيح والحكم طبقا لقانون الله. هنا، يتحدث دانتي لشخصيات تاريخية تجسد الفضيلة المطلوبة للحكم العادل والحوكمة الجيدة – مقترحا ما يجب ان يقوم به القادة اذا ارادوا ان يكون لسلطاتهم وزنا أخلاقيا. عبر استعمال صور رمزية لهذه الأماكن، ينتقد دانتي الحكام الحالين بينما يقترح ايضا ان السلطة السياسية المثالية يجب ان تأتي دائما بالعدالة والاخلاق.
نقد دانتي للقادة السياسيين المعاصرين
لم يتراجع دانتي في نقده للسياسيين والممارسات السياسية في زمانه. هو استخدم أعماله الادبية خاصة الكوميديا الالهية كمنصة لكشف وإدانة الفساد. وصف دانتي الشخصيات السياسية بشكل واضح وصريح ، أحيانا يقرر لهم عقوبات تعكس آثامهم. هدفه هو التأكيد على ما رآه كتخريب في القيادة الأخلاقية. في ارض الجحيم مثلا، يضع دانتي البابا يونيفاس الثامن (رمز لكل من الفساد الكنسي والخداع السياسي) في الجحيم قبل ان يواجه موته الحقيقي. هذا يكشف عن احتقار دانتي للطريقة التي يستخدم بها البابا السلطة البابوية. ونفس الشيء، وُضع قادة فلورنسا تحت النار. دانتي يتهمهم بالجشع والطعن بالظهر والخيانة وتدميرهم لنسيج المدينة التي أحبها كثيرا. ادانات دانتي القوية كانت تشكل تحذيراً أخلاقيا في اصراره على ان الناس يفضلون حوكمة عادلة مرتكزة على الاخلاق بدلا من المصلحة الذاتية. هو دعا قرائه لفحص سلوكهم وشرح كيف يجب ان يتصرف القادة طبقا لأفكار المسيحية حول الصحيح والخطأ.
جرأة دانتي في نقد الأفراد علناً كان لها تأثير كبير تمثّل في نفيه من بلدته فلورنسا. وكان هذا مدمرا على الصعيد الشخصي، لكنه ايضا جعل أعماله النثرية أكثر حدة. ايضا، فقدانه لبلده كان يعني انه اصبح اكثر عالمية في وجهة نظره، بصرف النظر عن المكان الذي يعيش فيه.
***
حاتم حميد محسن
.......................
الهوامش
(1) Inferno او الجحيم تحت الارض هو الجزء الاول من الكوميديا الالهية لدانتي في القرن الرابع عشر، تبعه التطهير purgatorio ثم الجنة paradise. في الجحيم نجد وصفا لرحلة خيالية لدانتي ذاته عبر الجحيم من أجل إنقاذ روح المرأة التي أحبها باتريكا مسترشدا بالشاعر الروماني القديم فيرجيل virgil. في الملحمة، توصف الجحيم على شكل تسع دوائر من العذاب متحدة المركز تقع في باطن الارض، انها عالم اولئك الذين رفضوا القيم الروحية عبر خضوعهم للشهوات او العنف، او بسبب تشويههم لعقولهم البشرية وارتكابهم الاحتيال او الحقد ضد رفاقهم البشر. كل دائرة من الدوائر التسع تمثل اثما مختلفا وكل دائرة لها درجتها من الشر. العقوبة الملائمة لكل اثم يتم تطبيقها في الدائرة المقابلة، وعندما يسافر دانتي خلال كل دائرة هو يلاقي شخصيات هامة من التاريخ كانوا مدانين في الإثم. الكوميديا الالهية، صورة رمزية تمثل رحلة الأرواح نحو الله.