آراء

رشيد الخيّون: أبو الحَسن.. تحريم التَّلاعب بالعقول

شُيد المقال على شخصيتين، مرجع النَّجف الأكبر، في وقته، أبي الحَسن الأَصفهانيّ (توفي 1946)، وخطيب المنبر الحُسينيّ صالح الحليّ (توفي 1940). لفت نظر المرجع أنَّ الخطيب يتلاعب بالعقول، في حكايات تُكرس الجهل، وهم لا يميزون بين صدقها وكذبها.

أما الخطيب فكان يهمه تزاحم الجمهور، وهو المتفوق بالخِطابة، لكنّ بمحتوى هابطٍ، ناهيك عن أنَّه شاعرٌ، وذو صوتٍ شجي، فأخذ بهجاء مَن أصدر فتوى تحريم التّطبير، والجلد بالسّلاسل، ولطم الصّدور، في مواسم عاشوراء. كان أبو الحسن أبرز أصحاب الفتاوى التي مالت للتعقل في المناسبات الدِّينيَّة، بتنزيهها عن دق الطّبول والصّنوج، والخرافات والشّعوذات (الخليليّ، هكذا عرفتهم)، لذا أخذ الحليّ يتناول الفقهاءَ بالهجاء، فاضطر المرجع إلى إِصدار فتوى تُحرم خطابته.

كان الحليّ مِن الشّعبيّة، وأغلب الفقهاء يخشون لسانه، والأصفهاني يَعلم أن هذا قد يؤثر على منزلته، وهو المتصدي للمرجعيّة العليا بالنَّجف، ويحتاج لكثرة المُقلِّدين، لكنه نظر في المصلحة، وفتواه أنهت الحليّ، وتلاعبه بالعقول، ولم يقبل بالوساطات لإلغاء الفتوى بحقِّهِ، بل ظل مصراً عليها، ولم يتراجع عن تحريم التّطبير والجلد بالسّلاسل ولطم الصّدور، وكل ما لا يليق بالمناسبة. ومما يُنسب للحليّ بيتُ هجاءٍ قيل في مرجع الشّام محسن الأمين (توفي 1952)، بسبب توجيه مراسم عاشوراء إلى العقلانيّة، والاكتفاء بالأدب والشّعر: «يا راكباً إما مررتَ بجلقِ/فابصق بوجه أمينها المتزندقِ» (الخليلي، نفسه، أمالي السّيد طالب الرّفاعيّ)، وهو بيت مشهور داخل النَّجف.

وعن مداراة الفقهاء لمزاج العوام، يمتنع البعض عن «المجاهرة بالحقِّ»، بذريعة دع النّاس في غفلاتهم. وفي هذا الجانب الذي تخطاه الأصفهانيّ بجرأة غير مسبوقةٍ وغير متبوعةٍ، مما نراه اليوم مِن تمادٍ وطغيان للخرافة والشّعوذة، في أداء الطُّقوس، يقول العلامة هبة الدّين الشّهرستاني (منشئ مجلة «العلم» النَّجفيَّة 1910 - 1912)، وهو أحد الفقهاء الجريئين: «أما في القرون الأخيرة، فالسَّيطرة أصحبت للرأي العام على رأي الأعلام.. فصار العالم والفقيه يتكلم مِن خوفهِ بين الطلاب، غير ما يتلطف به بين العوام» («العِلم» 23/11/1911). وما فعله هبة الدّين (توفي 1967)، أنْ حول مجلسَهُ في ذكرى عاشوراء إلى الأدب والخطابة، بعيداً عن الغلو والتَّظاهر في الطُّرقات، مِن قِبل المنتفعين، مِن أصحاب المواكب (الخاقاني، شعراء الغري). غير أنَّ موقف أبي الحسن الصّلب، في مواجهة الخرافة، تدعمه سلسلة مِن المواقف، فقد امتنع عن تكفير معروف الرُّصافيّ (توفي 1945)، عندما أفتى بتكفيره آخرون، وقد طُلب منه ذلك، لأنْه قال بـ «وحدة الوجود»، فكان جوابه: «هذا قيل مِن قبل، ولم يُكَفر عليه». وله القول بطهارة الإنسان بغض النّظر عن دينه، بينما رسائل فقهية ملأى بتنجيس الإنسان لدينه. كما أفتى باعتبار رؤية هلال رمضان وشوال لكلّ بلد، لا تؤخذ على وحدة مذهب أو لاعتبارات السياسة، إلا هلال ذي الحجَّة فالمعتمد إعلان مكَّةَ. كذلك عمل أبو الحسن، وهو المرجع الأعلى، على إيقاف انتقال الفلاحين مِن العشائر الشِّيعية إلى سامراء، بعد شراء الأراضي الزّراعيّة هناك، مراعاةً للأمر الواقع، فهي مدينة سُنيَّة، وسدانة مرقدها سُنيَّة منذ مئات السِّنين، وهناك مَن اعتبر ذلك مؤامرة (الطَّريحيّ، أبو الحسن الأصفهاني، مجلة «الموسم»)، ولا أراه كذلك، بل كان مِن أجل السّلم المجتمعي. نعود إلى بيت القصيد، إذا حاول أبو الحسن وقف التَّلاعب بعقول النّاس، كم يكون الموقف اليوم ضروريَّاً، حيث تزايد المتلاعبون، وهم يدفعون المجتمع إلى القاع، ولم يُتصدَ لهم بفتوى واضحة، مثل الحَزم الذي تصدى به الأصفهاني، والشهرستاني، والأمين، مع أنَّ وقتنا هو الأحوج. فإذا كانت المغالاة تذاع في مجلس محدد، فاليوم يسمعها ويستنشق زفيرها الملايين، فعلام الخشية مِن هذه الأصوات، وآخر الأداء شتم مدن بتاريخها وحاضرها مثل الكوفة. لذا لا بد مِن موقفٍ واضحٍ يحد مِن تلاعب ذرية الحليّ وأمثاله مِن المتلاعبين بالعقول، لوقف خطابهم الطائفي الذي ينخر البلاد ويؤذي العباد.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم