آراء

جمال العتابي: وهم الأبيض

غالباً ما يرتبط اللون الأبيض بالنقاء والبراءة والصفاء والسلام، وأحياناً ينظر إليه كرمز للفراغ، أو الصفحة البيضاء، قبل الخلق أو الفعل، مما يربطه بالعدم أو الفراغ فلسفياً حين تمتد دلالاته إلى مجالات أخرى.

نفسياً يمنح اللون الأبيض شعوراً بالاتساع، الراحة والهدوء، وأحياناً يشعر البعض بالعزلة والانفصال أو التعالي. في الفن التشكيلي يلجأ الفنان إلى اللون الأبيض كوسيلة للتعبير عن المطلق أو التجريد، وللتخلص من التفاصيل والرجوع إلى الجوهر عند الرسامين الحداثيين.

من منظور جدلي، لا يُفهم الأبيض إلا بوجود نقيضه الأسود، هنا ندخل في مفاهيم الفلسفة: الخير مقابل الشر، النور مقابل الظلام.

كل هذه الدلالات والرمزية في اللون تبدو منطقية ومقبولة غير بعيدة عن سياقاتها، بيد أن اللون يتخلى عن مدلولاته تلك ليذهب إلى أبعد من ذلك في السياقات السياسية والاجتماعية، اللون هنا يعني السلطة والسيطرة، والتفوق في بعض الأيديولوجيات العنصرية، أو النقاء العِرقي، ما يكشف عن إساءة استخدام رمزية اللون.

ما يدعو للتساؤل في هذا الصدد عن معنى اهتمام الاوربيين والأمريكان على وجه الخصوص، في احتجاز رهائن من البيض مثلاً في أي مكان العالم. أمام حدث من هذا القبيل تنشغل الحكومات ووسائل الاتصال والرأي العام في متابعة ما ستسفر عنه عملية الاحتجاز، وتتعالى أصوات الاحتجاجات والمناشدات انتصاراً لقيمة الإنسان الأبيض.

هذا الاعلام لا يهتم بمصير آلاف القتلى والمشرّدين من أبناء غزّة وجنوب  لبنان، وعمليات الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني أو شعوب العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وتلك المآسي التي تغيب تفاصيلها في خضم الاحداث الكئيبة، هذا ينقلنا إلى القرارات الكبرى والخطيرة التي تتجاهل الانعكاسات السلبية على مصائر الأفراد، ربما لو كان المحتجزون من لون آخر، ما كان الأمر يثير اهتمام البيض، واختلفت النتائج وردود الأفعال. حتى في خلال أرقام الضحايا، لا تعني مئات الآلاف من القتلى أمام عشرات فقط من الطرف الآخر. هذا كلّه لا يهم، فليكونوا عرباً، أو أفارقة، أو هنوداً، ماذا يهم ؟

الحق، أن الغرب الأوربي والأمريكي، عنصري في جوهره، علينا أن ندرك هذه الحقيقة، إن دلالة لفظ " الإنسان " تعنيهم هم، بينما يدفعون الشعوب والقوميات الأخرى خارج الدائرة. البيض يعني الجنس الأبيض، يعني أبناء الغرب تحديداً.

ولأن الأبيض هو الأقوى اقتصادياً، وتكنولوجياً، تحولت مقاييسه إلى أسس يحكم بها العالم.

يتوجّه الجيش الروسي بأوامر من غورباتشوف ليقمع أهل أذربيجان، وأوزبكستان وغيرهما من الجمهوريات التي يسكنها مواطنون أما سمر أو صفر، أو أقل بياضاً، يسقط مئات القتلى والجرحى، فلا يتحرك "الأبيض جداً"، أي الغرب، كما أن غورباتشوف الذي يتصور أنه أبيض، يحاول جاهداً أن يجعل من الاتحاد السوفييتي تابعاً للسيد الأبيض! هل هي صدفة أن اسم مقر الرئيس الأمريكي الأقوى في عالم اليوم، هو البيت الأبيض.

مؤخراً استقبل فيه الرئيس الأمريكي ترامب نظيره رئيس جنوب أفريقيا، في مشهد مشحون بالتوتر، وجّه ترامب اتهامات مثيرة للجدل، مدعياً قتل المزارعين البيض في جنوب أفريقيا، أثناء اللقاء عرض ترامب بطريقة مسرحية صوراً ومقاطع فيديو لدفن البيض، تبين أنها لم تقع في جنوب أفريقيا، إنما في جمهورية الكونغو!

عندنا في العراق بناية كئيبة تسمى "القصر الأبيض" بناها الملوك قصراً للضيافة عام 1934، تعددت وظائفها، وتبدلت استخداماتها وفقاً للتبدلات الدراماتيكية في الوضع السياسي ونظام الحكم في العراق. تحولت إلى بناية تابعة لأمانة العاصمة بعد سقوط النظام الملكي، وفي أواخر الستينات صارت متحفاً عسكرياً تابعاً لوزارة الدفاع، وفي تسعينات القرن الماضي تحولت إلى متحف للفنانين، ومنتدى ثقافي.

من المفارقات المثيرة أن القصر الأبيض استقبل عدداً من ضيوف العراق من الملوك والرؤساء العرب في فترات مختلفة، كان آخرهم الرئيس اليمني عبد الله السلّال عام 1967، أثناء إقامته في القصر أبلغه شامل السامرائي وزير داخلية العراق في العهد العارفي الثاني، أن انقلاباً عسكرياً أطاح به في صنعاء. فما كان من السلّال إلا البقاء في القصر الأبيض لمدة سنتين، لغاية استقرار الوضع في بلاده.

في التصوف فهمٌ مختلف للألوان، والأرقام. يقولون أن الأبيض أصل كل الألوان، هل هذا صحيح وفق قاعدة الطيف الشمسي؟ طبعا الإجابة لا، لأن الأبيض لا يعدّ ضمن قائمة الألوان، كذلك الأسود يظل أصلاً لكل الألوان، وربما كان الأقدم، لأن النور ينبعث من العتمة، فالسواد أصل، وينبغي أن ندرك أن الأبيض لا يمكن له وجود بصفته إلا بوجود الأسود، والعكس صحيح، وبدرجات اللونين تتكامل الإنسانية.

هذا التنوع بالدلالات المتناقضة يمنح الأبيض بعداً فلسفياً آخر، هو ما أدركه الشرق بثقافاته، بحضاراته، بعمقه الإنساني، وهذا ما لا يريد للغرب الأبيض جداً أن يقتنع به. لست عنصرياً ولن أكون، ولا أدعو إلى المواجهة بمنطقهم، ولكنني أقول بالتصدي لأية محاولة لمحو هويتنا حتى يفيقوا ويدركوا أن الإنسانية لا يمكن أن تكتمل إلا بامتزاج كل الألوان.

***

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم