آراء
غالب المسعودي: ملامح الحقبة الامبريالية في الشرق الأوسط

اتسم العصر الإمبريالي في الشرق الأوسط بمجموعة من الملامح الرئيسية التي أثرت بشكل عميق على المنطقة، التجزئة السياسية والحدود المصطنعة كانت من أبرز ملامح هذا العصر، ان انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاه من تقسيم للمنطقة بموجب اتفاقيات سرية مثل اتفاقية (سايكس-بيكو) أدت إلى رسم حدود جديدة لا تعكس الواقع التاريخي أو الديموغرافي للمنطقة، مما أدى إلى ظهور دول جديدة. خلقت هذه الحدود المصطنعة توترات وصراعات إقليمية ودولية مستمرة حتى اليوم، بسبب تجاهلها للروابط العرقية والدينية والمجتمعية. شكل اكتشاف النفط في المنطقة حافزاً رئيسياً للأطماع الإمبريالية. كما سعت القوى الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة، إلى للسيطرة على موارد النفط والغاز لضمان مصالحها الاقتصادية السعي وتحويل الاقتصادات المحلية إلى مجرد مصدر للمواد الخام وسوق للمنتجات المصنعة، مما أدى إلى إضعاف الصناعات المحلية وخلق حالة من التبعية.
الخطوة الاستعمارية التالية
عملت القوى الاستعمارية على دعم وتثبيت أنظمة حكم محلية تكون موالية لها تخدم مصالحها، مما أدى إلى إضعاف الحركات الوطنية التحررية، كما قامت القوى الاستعمارية بتعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية لتسهيل السيطرة على المجتمعات المحلية، وخلق حالة من عدم الاستقرار. على سبيل المثال تم بناء النظام السياسي في لبنان على أساس طائفي من قبل الاستعمار الفرنسي، كما قامت القوى الإمبريالية بتعميق وجودها من خلال وفرض لغاتها وثقافاتها وأنظمتها التعليمية تغيير المناهج التعليمية الاستعمارية، وتكوين طبقة من النخب المحلية الموالية للقوى الاستعمارية. رغم ذلك ظهرت حركات مقاومة للاستعمار متنوعة، سواء كانت مسلحة أو سياسية أو ثقافية، سعت إلى التخلص من الاستعمار، بالتالي يمكن القول إن العصر الإمبريالي في الشرق الأوسط تميز بتفكيك الإمبراطورية العثمانية، وتقسيم المنطقة، والسيطرة على مواردها، وتثبيت أنظمة موالية، وإضعاف الهوية المحلية، مما أدى إلى خلق صراعات مستمرة وصعوبات طويلة الأمد تواجهها المنطقة حتى يومنا هذا.
استراتيجيات العمل الاستعماري
الاستعماراستند إلى استراتيجيات وتخطيطات اقتصادية طويلة الأمد من قبل القوى الأوروبية، ثم الولايات المتحدة، لتحقيق أهداف محددة، بدأت جهود الاستعمار في المنطقة قبل انهيار الدولة العثمانية بوقت طويل، من خلال إضعافها اقتصادياً عبر اتفاقيات تجارية مجحفة مثل "الاتفاقية التجارية الأنجلو-تركية" عام 1838، التي فرضت على الدولة العثمانية إلغاء التعريفات الجمركية، مما أدى إلى انهيار صناعاتها المحلية وجعلها تعتمد على البضائع الأوروبية، تُعد اتفاقية سايكس-بيكو (1916) خير دليل على التخطيط الممنهج. فقد كانت اتفاقية سرية بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم مناطق النفوذ العثمانية قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، مما أدى إلى خلق حدود مصطنعة تخدم المصالح الاستعمارية وتمنع قيام كيانات عربية موحدة قوية، تمحورت الأهداف الاستعمارية حول السيطرة على النفط، حيث كان يُنظر إليه كأهم عامل استراتيجي. كانت سياسات الدول الغربية تهدف إلى تأمين وصولها إلى منابع النفط في المنطقة، وهو ما يتضح من دعمها لأنظمة حكم موالية لها، وتدخلاتها العسكرية. الطائفية لم تكن مجرد نتيجة عرضية للاستعمار، بل كانت أداة ممنهجة استخدمتها القوى الاستعمارية لتحقيق أهدافها في الهيمنة والسيطرة على المنطقة، تؤكد المصادر التاريخية أن الطائفية، التي كانت أداة استعمارية، امتدت بالفعل لتشمل الأيديولوجيات التي تدعي الثورية. في بعض الصراعات الإقليمية، استغلت قوى إقليمية ودولية الصراعات الطائفية لتوسيع نفوذها. فمثلاً، استخدمت بعض القوى الطائفية خطاب المقاومة ضد الإمبريالية الغربية، بينما كانت في الواقع تسعى لتأكيد هيمنتها الإقليمية وتغيير ميزان القوى لصالحها، أدت السياسات الاستعمارية إلى إضعاف الدولة الوطنية وتفكيك النسيج الاجتماعي، مما مهد الطريق لبروز الهويات الطائفية كبديل عن الهوية الوطنية. هذا الأمر استغلته بعض الحركات الثورية التي فشلت في تقديم رؤية وطنية جامعة، فلجأت إلى الخطاب الطائفي كوسيلة لكسب التأييد بعد هزيمة الأيديولوجيات الكبرى، في منتصف القرن العشرين، وبرزت الأيديولوجيات الطائفية كبديل لتعبئة الجماهير. هذا الفشل سمح لبعض الحركات الدينية والسياسية بتبني خطاب طائفي حاد، مما أدى إلى تصعيد الصراعات الداخلية.
مظاهر الخنوع واللامبالاة المعاصرة
يمكن القول إن هناك علاقة مباشرة وقوية بين سياسات الإمبريالية الاقتصادية ومظاهر الخنوع واللامبالاة التي يمكن رصدها في الشرق الأوسط، حاليا اذ عملت القوى الإمبريالية على إعادة هيكلة اقتصادات المنطقة لتخدم مصالحها. لم يتم تشجيع الصناعات الإنتاجية المحلية، بل تم التركيز على استخراج وتصدير المواد الخام (النفط، الغاز، المعادن، الزراعة) إلى الأسواق الغربية. هذا الأمر أدى إلى نشوء "الاقتصاد الريعي" حيث تعتمد الدولة على إيرادات هذه الموارد بدلاً من الإنتاج الحقيقي، مما يقلل من حاجة الحكومات إلى مواطنيها كمنتجين ويجعلها أقل عرضة للمساءلة، في سياق الاقتصاد الريعي، نشأت طبقات سياسية واقتصادية مرتبطة بالأنظمة الحاكمة والقوى الأجنبية. هذه الطبقات "الكمبرادورية" تستفيد من الوضع الراهن وتعمل على إدامته، مما يعمق الفجوة بينها وبين عموم الشعب ويساهم في قمع أي حراك أو مطالبة بالتغيير، أدت السياسات الاستعمارية إلى إضعاف أو تدمير المؤسسات الاقتصادية والسياسية المحلية، مما ترك فراغًا ملأته أنظمة حكم مركزية وقمعية، مدعومة غالبًا من الخارج. هذه الأنظمة لا تعتمد على شرعية شعبية، بل على السيطرة الاقتصادية والأمنية، مما يقوض أي حس بالمواطنة الفاعلة أو المشاركة السياسية، لم يقتصر التأثير على الاقتصاد فقط، بل امتد إلى الجانب الثقافي. فُرضت أنماط استهلاكية غريبة عن المنطقة، مما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي وتشكيل هوية اجتماعية متجهة نحو الاستهلاك بدلاً من الإنتاج، استمرت هذه التبعية من خلال سياسات نيوليبرالية التي فرضتها مؤسسات مالية دولية. هذه السياسات أدت إلى خصخصة القطاعات العامة، وتهميش الطبقات الفقيرة، وتعميق التفاوت الاجتماعي، مما أدى إلى حالة من اليأس واللامبالاة بين فئات واسعة من الشباب. يمكن القول إن مظاهر الخنوع واللامبالاة هي نتيجة مباشرة لتراكمات تاريخية واقتصادية وسياسية، حيث أدت السياسات الإمبريالية إلى خلق بنى اقتصادية وسياسية هشة، تركت المواطن في حالة من العجز وشعور بعدم القدرة على إحداث تغيير حقيقي ما دامت المنطقة تعتمد على اقتصاد النفط والغاز، فإن القوى التي تسيطر على هذه الموارد أو تتحكم في مساراتها ستبقى هي اللاعب الرئيسي. هذا يكرس حالة من التبعية حيث لا تستطيع الدول اتخاذ قرارات مستقلة قد تتعارض مع مصالح تلك القوى.
دور الإرادة الشعبية في التغيير
الإرادة الشعبية باتت ورقة على طاولة المفاوضات بين القوى العالمية أصبح المشهد مجرد سيناريو قصير على طاولة المفاوضات بين القوى الكبرى، هذه الحالة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة طبيعية لتراكمات تاريخية وسياسية، اذ أن المؤسسات الوطنية التي كان من المفترض أن تكون صوت الشعب في المحافل الدولية، تم إضعافها على مر العقود، إما بفعل الاستبداد الداخلي أو نتيجة للتدخلات الخارجية. هذا الأمر جعل الدول عاجزة عن تمثيل الإرادة الشعبية بشكل حقيقي، وأصبحت مجرد أداة لتنفيذ برامج خارجية، كما أدت الصراعات والحروب بالوكالة إلى انعدام ثقة الشعب في أي مبادرات سياسية، سواء كانت داخلية أو خارجية. عندما يرى المواطن ان الاقتصادات الإقليمية مرهونة بالتبعية للقوى الكبرى، فإن القرارات السيادية للدول ستبقى مقيدة، القوة الاقتصادية هي التي تمنح الدول القدرة على التحرك بمرونة في الساحة الدولية، وغيابها يضعف الإرادة الشعبية ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن الإرادة الشعبية قد ماتت تماماً. إنها قد لا تكون حاضرة بشكل مباشر، لكنها تظهر بطرق أخرى، في كثير من الأحيان، تتجلى الإرادة الشعبية في المقاومة السلبية، مثل رفض المشاركة السياسية أو السخرية من الأوضاع الراهنة، وهي علامات على عدم القبول بالواقع، قد لا يظهر التغيير في قاعات المؤتمرات، لكنه ينمو في المجتمع من خلال حركات مدنية، ونشطاء، ومثقفين يعملون على تغيير الوعي وتشكيل رؤية بديلة للمستقبل. فهل يمكن للإرادة الشعبية أن تستعيد زمام المبادرة وتتحول من مجرد ورقة تفاوض إلى فاعل حقيقي على الساحة السياسية؟ وما هي الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها لاستعادة هذه الإرادة؟.
***
غالب المسعودي