آراء
رافد القاضي: تجريم التحرش الإلكتروني
قراءة قانونية جديدة في ضوء الثقافة الرقمية
مع توسع استخدام التكنولوجيا الحديثة وانتشار الإنترنت في كل جوانب الحياة اليومية، برزت ظاهرة التحرش الإلكتروني كأحد أبرز التحديات القانونية والاجتماعية المعاصرة فقد أصبح الفضاء الرقمي مساحة تتيح للأفراد التواصل بحرية، وفي الوقت نفسه، أصبح مرتعًا لممارسات سلبية تمس الحقوق والحريات الشخصية ومن هذا المنطلق، تزداد الحاجة إلى قراءة قانونية جديدة تُعيد صياغة مفهوم التجريم التقليدي لتتناسب مع خصوصية الثقافة الرقمية.
أولاً: مفهوم التحرش الإلكتروني وأشكاله
التحرش الإلكتروني هو كل سلوك ينطوي على مضايقة أو تهديد أو استغلال شخص عبر الوسائل الرقمية، سواء كان ذلك عبر الرسائل النصية، البريد الإلكتروني وسائل التواصل الاجتماعي أو أي منصة رقمية أخرى ويتجلى التحرش الإلكتروني في عدة أشكال منها:
1. الإساءات اللفظية: مثل السب، التهديد أو الإهانات المباشرة عبر الفضاء الرقمي.
2. المضايقات المستمرة: إرسال رسائل متكررة مزعجة أو غير مرغوب فيها.
3. التشهير الإلكتروني: نشر معلومات أو صور شخصية دون إذن بقصد الإضرار بالسمعة.
4. التحرش الجنسي الرقمي:
إرسال محتوى جنسي غير مرغوب فيه أو طلب إيصالات رقمية ذات طبيعة جنسية وتتضح هنا الحاجة إلى تعريف قانوني دقيق يراعي طبيعة هذه الأفعال الرقمية، بعيدًا عن التصنيفات التقليدية للتحرش الواقعي.
ثانيًا: الإطار القانوني الحالي
تعتمد معظم التشريعات الوطنية على قوانين حماية الشخصية والخصوصية وبعض القوانين الجنائية التي تجرم السب والقذف إلا أن هذه التشريعات غالبًا ما تواجه صعوبة في التطبيق على الجرائم الإلكترونية لأسباب أبرزها:
- عبور الحدود: فالمتحرش قد يكون في دولة أخرى، مما يعقد تطبيق القانون المحلي.
- طبيعة الأدلة الرقمية: البيانات الرقمية يمكن تعديلها أو حذفها بسرعة مما يعرقل جمع الأدلة القانونية.
- غياب التعريف الموحد: لا يوجد حتى الآن تعريف موحد للتحرش الإلكتروني في معظم التشريعات، مما يفتح ثغرات أمام المتهمين
على سبيل المثال، في العراق والدول العربية، هناك بعض المواد التي تجرم الإهانة أو السب الإلكتروني، لكنها لا تغطي جميع أشكال التحرش الإلكتروني، وخاصة المضايقات المستمرة أو التحرش الجنسي الرقمي.
ثالثًا: الثقافة الرقمية والتحرش الإلكتروني
فالثقافة الرقمية هي مجموع الممارسات والقيم التي تنشأ نتيجة استخدام الأفراد للتقنيات الرقمية وفي هذا السياق، يتحقق التحرش الإلكتروني نتيجة عدة عوامل:
1. الانفلات الرقمي:
شعور المتحرش بالحرية والانفصال عن العقوبة المباشرة في الفضاء الرقمي
2. غياب الرقابة الذاتية: ان نقص الوعي القانوني أو الأخلاقي لدى بعض المستخدمين.
3. سهولة الوصول والتخفي:
القدرة على التواصل مجهول الهوية أو عبر حسابات مزيفة تسهّل ممارسة التحرش دون الخوف من المسؤولية
وهذا يوضح أن الثقافة الرقمية نفسها قد تسهم في تكوين بيئة مواتية للتحرش ما يستدعي استجابة قانونية وقائية أكثر فاعلية.
رابعًا: مقاربة قانونية جديدة لتجريم التحرش الإلكتروني
لغرض تطوير منظومة قانونية فعّالة، يجب أن تشمل المقاربة الجديدة عدة محاور:
1. تعريف شامل للتحرش الإلكتروني:
يشمل المضايقات التهديدات، الإيذاء النفسي والنشر غير القانوني للبيانات.
2. تجريم خاص بالتحرش الرقمي:
إضافة مواد قانونية مستقلة تجرم الأفعال الرقمية بغض النظر عن وجود العنصر الجنسي أو المادي.
3. آليات حماية الضحايا: مثل فرض حظر تواصل مؤقت، حذف المحتوى المسيء، وتعويضات مدنية للضرر النفسي والمادي.
4. تعاون دولي:
لأن الفضاء الرقمي لا يعرف حدودًا، فإن الاتفاقيات الدولية ومبادرات تبادل المعلومات بين الدول ضرورية لتطبيق القانون.
5. التوعية القانونية:
نشر الثقافة القانونية الرقمية بين المستخدمين خصوصًا الفئات الأكثر عرضة للتحرش مثل الشباب والنساء.
خامسًا: الأمثلة العملية والتحديات.
لقد شهدت عدة دول تجارب مختلفة في مواجهة التحرش الإلكتروني، على سبيل المثال:
- الاتحاد الأوروبي:
اعتمد قوانين صارمة لحماية البيانات الشخصية وجرم نشر المحتوى الجنسي غير المرخص.
- الولايات المتحدة الأمريكية:
أدخلت بعض الولايات قوانين متخصصة للتحرش عبر الإنترنت، مع توفير حماية للضحايا من المضايقات المستمرة.
- الدول العربية:
معظم التشريعات لا تزال تعتمد على القوانين التقليدية، ما يستدعي تحديث النصوص القانونية لمواكبة التطورات الرقمية.
ان التحدي الأساسي يكمن في تحقيق توازن بين حماية الحقوق الفردية وحرية التعبير على الإنترنت، دون أن تصبح العقوبات مبالغًا فيها أو غير قابلة للتطبيق.
سادسًا: التوصيات
من أجل تجريم التحرش الإلكتروني بفعالية يجب التركيز على:
1. تحديث القوانين المحلية لتشمل أشكال التحرش الرقمي المختلفة.
2. إدراج برامج توعية قانونية وأخلاقية للمستخدمين في المدارس والجامعات.
3. تعزيز التعاون الدولي لمواجهة الجرائم الإلكترونية العابرة للحدود.
4. تطوير أدوات قانونية وتقنية لجمع الأدلة الرقمية بشكل آمن وقانوني.
5. تشجيع المجتمع المدني على المشاركة في رصد ومكافحة التحرش الإلكتروني.
ختاما ان التحرش الإلكتروني يمثل تحديًا قانونيًا واجتماعيًا حديثًا يتطلب قراءة قانونية جديدة تتجاوز التعريفات التقليدية للتحرش الواقعي فالتجريم الفعال يعتمد على مزيج من التشريعات الحديثة، التوعية الرقمية والتعاون الدولي، بما يضمن حماية الضحايا وصون الحقوق والحريات في الفضاء الرقمي ومع تطور التكنولوجيا بسرعة، يبقى تحديث القوانين ومواكبة الثقافة الرقمية أمرًا ضروريًا لمواجهة هذه الظاهرة المتنامية.
***
د. رافد حميد فرج القاضي






