قضايا
إبراهيم برسي: قرناص.. سلطة البلاغ ومجاز السلطة

“اكتب يا هيبا، فمن يكتب لن يموت أبدًا.”هكذا يبدأ الهمس في أذن الراهب الحائر بين جدران ديره، وهكذا يبدأ أيضًا صراع كل كاتب يواجه سلطةٍ تحاول أن تحيله إلى صمت أبدي. في زمن هيبا، كانت جدران الكنيسة تزن الكلمة بميزان العقيدة. في زمننا، تتبدّل الجدران: قد تكون قاعة محكمة، أو شاشة إعلامية، أو ملفًا قضائيًا يُطوى فيه العمر على هامش تهمة.
اليوم، يواجه الدكتور الوليد مادبو حملة شعواء تسعى لمحاكمة نصوصه الكاشفة، وهي لا تحاكمه هو، بل تحاكم إمكانية أن توجد الحقيقة خارج أسوارهم البائسة. كما قال نيتشه: “كل حقيقة هي جيش من الاستعارات”، والاستعارة التي تنفلت من يد السلطة تتحول إلى تمرّد لا يمكن ضبطه.
فوكو، في تتبعه لمسارات السلطة، كان يدرك أن أخطر ما يهدد نظامًا ما ليس السلاح ولا العصيان المسلح، بل النص الذي يخلخل يقيناته، النص الذي يفضح اللغة التي تتخفّى بها السلطة وهي تعيد تشكيل الجسد والضمير على مقاسها. النص هنا ليس حبرًا على ورق أو شاشة هاتف، بل جسد متمرد، والكاتب ليس شخصًا، بل ساحة مفتوحة للصراع بكل أنواعه.
قرأتُ مقالات مادبو التي تضمنتها "ثلاثية قرناص" كما لو كنتُ أطالع فصلًا مفقودًا من عزازيل. هناك، كان هيبا الراهب يدوّن يومياته في مواجهة مؤسسة تحاصره، لا خوفًا من زلة لسان، بل من أن تتحول كلماته إلى نبوءة بالحرية. كانت الكنيسة تحاكم الجسد الذي أحب، والفكر الذي تجرأ على النظر خارج المألوف، بالمنطق ذاته الذي تحاكم به سلطة اليوم الوليد مادبو، أو بالأحرى سلطة الأمر الواقع في بورتسودان: تحويل السؤال إلى تهمة، وجعل الحق في السرد جريمة مكتملة الأركان.
في عزازيل، كان هيبا ممزقًا بين لذّة الجسد وسوط العقيدة، بين حنينه إلى مريم وسقف الدير الذي يضيق كلما تنفست الحرية. وفي مقالة مادبو، بدت قرناص – لا كاسم، بل كأيقونة – تمثل الوجه الآخر لتلك السلطة التي أراد هيبا أن يتحرر منها: سلطة تجعل الأنوثة أداةً للتزيين السياسي، وتحيل الحب إلى وظيفة، وتحول الجمال إلى قسم العلاقات العامة للدولة، ومن ثم تُوزَّع كهبات وهدايا مغلفة في أوراق أنيقة تحمل عبارات وجملًا دينية.
لكن في سياق السودان، لهذا الوجه الآخر اسم وعنوان: الجبهة الإسلامية القومية. الجماعة التي زعمت أنها جاءت “لتطهّر” المجتمع، بينما كانت تزرع في جسده سرطان القمع والفساد. التي سنّت قوانين النظام العام لتجلد النساء في الأسواق، ومنحت الامتيازات لمن اختارتهم كواجهة “متدينة” لترويج مشروعها المزعوم. هي نفسها التي أرهبت الصحفيين والمفكرين، ومنعت الكتب، وأغلقت المنابر، ثم ابتسمت أمام الكاميرات وهي توزع صكوك الغفران السياسي.
السفيرة التي ترفع اليوم دعوى ضد الكاتب – والدعوى التي رفعها النظام باسمها – تكرر خطى أولئك الذين جرّوا محجوب شريف إلى المعتقل، وطاردوا حميد والدوش وغيرهم، ووضعوا أسماء الكتّاب على قوائم الممنوعين من السفر. ليست القضية فردية، بل امتداد لزمن كانت فيه الكلمة جريمة تستدعي العقاب.
فوكو كان سيقرأ ما حدث للوليد مادبو كتجسيد للسياسة الحيوية: كيف تدير السلطة حياة الأفراد وأجسادهم وسردياتهم، وكيف تجعل القانون أداة لإعادة إنتاج الطاعة. ويوسف زيدان كان سيرى في هذا الاستدعاء صدى لمحاكم التفتيش: المطلوب ليس إقناع المفكر بخطئه، بل إرغامه على قبول تعريف السلطة للصواب.
إنهم لا يحاكمون مادبو لأنه أساء لشخص – وهو لم يفعل – بل لأنه جرّد خطابهم من قماشه الرثّ، وواجههم بلغة لا يمكن وضعها في محاضر الاتهام دون أن يعترفوا بأنهم الطرف الآخر في الرواية. في ذلك، يضع الكاتب نفسه، عن وعي، في المسافة الحرجة التي وقف فيها هيبا: بين رغبة الاعتراف وخوفه، بين حق الجسد في أن يكون شاهدًا وحق الروح في أن تكون حرة.
ما فعله مادبو ليس هجومًا شخصيًا، بل مراوغة على طريقة الكبار: انزلاق بالكرة إلى قلب الشبكة التي تحرسها السلطة، لتكتشف متأخرة أن الملعب لم يكن لها أصلًا. ولهذا، فإن محاكمهم، مهما علت جدرانها، ستظل عاجزة عن محاكمة النص الذي خرج من سلطة اللحظة ودخل أرشيف الضمير.
التاريخ لا يحفظ أسماء القضاة ولا لوائح الاتهام، بل أسماء الذين قاوموا قبح السلطة بالكلمة. ستزول الجبهة الإسلامية كما زال كل طغيان، لكن وقائعها ستظل شاهدًا على سؤال بسيط: كيف تصنع سلطة عدوها من الشعراء والكتّاب؟ وحين تُفتح دفاتر المحاكم الحقيقية، لن يُسأل مادبو عمّا كتب، بل ستُسأل الجبهة عمّا فعلت، وحينها لن ينفعها وشاح دبلوماسي ولا بيان تبرير.
***
إبراهيم برسي
11/08/2025