قضايا
عبد السلام فاروق: قصة الكلمة المراقبة.. علي الوردي الصوت الذي أرعب السلطة
كان الدكتور علي الوردي (1913-1995) أكثر من مجرد عالم اجتماع أكاديمي، لقد كان ظاهرة فكرية فريدة في العراق الحديث، ورغم أنه لم ينضم إلى أي حزب سياسي طوال حياته، إلا أن أفكاره الجريئة جعلته تحت مجهر الأجهزة الأمنية لعدة عقود. ملفه الأمني الذي كشف النقاب عنه لاحقاً في كتاب "علي الوردي في ملفه الأمني" الذي أعده سعدون هليل والصادر عام 2016، ليس مجرد وثيقة بيروقراطية، بل هو شهادة على علاقة المثقف بالسلطة في عالم عربي يتوجس من كل صوت حر. يحمل هذا الملف بين طياته قصة صراع خفي بين قوة الكلمة وقوة القمع، بين مثقف يسعى لتغيير المجتمع من خلال فهمه، وسلطة تخشى هذا الفهم لما يحمله من إمكانية لإيقاظ الوعي الجمعي.
النشأة التي شكلت المنهج
نشأ الوردي في مدينة الكاظمية ببغداد عام 1913، في أسرة فقيرة محافظة لكنها مرموقة في مجال العلم والأدب، ولقب بالوردي نسبة إلى حرفة جده الأكبر الذي كان يعمل في تقطير ماء الورد. غادر مقاعد الدراسة في عام 1924 ليعمل عند عطار، لكنه طرد من العمل لأنه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن. لم تثنه هذه الظروف الصعبة عن مواصلة شغفه بالمعرفة، فتح دكاناً صغيراً يديره بنفسه، والتحق بالدراسة المسائية.
تشكلت شخصيته المستقلة من هذه البدايات المتواضعة، وكانت حادثة حدثت في طفولته سبباً في انحيازه الدائم للمظلومين، حين اشترى له والده بندقية خشبية أثناء زيارة إلى النجف، فضربه صبيان أكبر منه وأخذا البندقية، فبغضت هذه الواقعة الظلم إليه، كما يذكر أستاذ الفلسفة العراقي مدني صالح الذي وصفه بـ"الثوري الهادئ". سافر الوردي إلى الجامعة الأمريكية في بيروت حيث حصل على بكالوريوس التجارة والاقتصاد سنة 1943، ثم إلى جامعة تكساس حيث نال الماجستير عام 1948 والدكتوراه عام 1950.
نظرياته المثيرة
قدم الوردي تحليلاً مبتكراً للشخصية العراقية وصفها بالازدواجية، حيث تحمل قيماً متناقضة هي قيم البداوة وقيم الحضارة. فسر هذه الازدواجية بأنها نتيجة الجغرافيا العراقية المتميزة، فهو بلد يسمح ببناء حضارة بسبب النهرين، لكن قربه من الصحراء العربية جعله عرضة لهجرات كبيرة عبر التاريخ. لم يقصر الوردي هذه الظاهرة على العراقيين فقط، بل رأى أنها ناتجة عن استمرار الحركة والهجرة التي جعلت العراق في حالة صراع دائم وصدام بين الثقافات المختلفة والقيم المتناقضة.
نقد وعاظ السلاطين
في كتابه الشهير "وعاظ السلاطين"، انتقد الوردي استخدام علماء المسلمين الخطاب الشرعي لإخضاع الرعية للحكام، وتساهلهم في مخالفات الحكام وتغاضيهم عنها. حلل الوردي السبب الذي من ورائه انجر الوعاظ لمسايرة السلاطين وهو "حب النفس"، حيث كان الوعاظ يدعون أنهم يفعلون ما يفعلون لـ"مصلحة الإسلام والمسلمين". هاجم فيه بعض رجال الدين لوقوفهم إلى جانب الحكام وتجاهل مصالح الأمة على حساب مصالحهم الضيقة.
منهج علمي متميز
اتسم منهج الوردي بالواقعية في التحليلات الاجتماعية على طريقة ابن خلدون، وكانت أطروحته للدكتوراه حول نظرية المعرفة عند عبد الرحمن بن خلدون. اعتمد على الدمج بين النظريات الغربية وواقع المجتمع العراقي، ساعياً لتأسيس "علم اجتماع عربي" حقيقي. انتقده الشيوعيون لعدم اعتماده المنهج المادي التاريخي في دراسته، واتهمه القوميون العرب بالقطرية لأنه عنون كتابه "شخصية الفرد العراقي".
الاستدعاء الأمني الأول
في عام 1965، فوجئ الوردي باستدعاء من مديرية الأمن في عهد الرئيس عبد السلام عارف. أخبره مدير الأمن أن السفراء الأمريكيين والبريطانيين في العراق كان يُلزموا بقراءة كتب الوردي عن طبيعة المجتمع العراقي قبل استلام مهام وظائفهم، وهو ما تسبّب في شكوك السلطة إزاءه. يذكر الكاتب محمد عيسى الخاقاني في كتابه "مئة عام مع الوردي" أن الوردي فرح بهذا الاستدعاء قبل أن يعرف سببه، لرؤيته اضطهاد السلطة علامة على صحة موقف المفكر، وباباً لاعتباره بطلاً.
ملف أمني ممتد
كشف الباحث سعدون هليل في كتابه "علي الوردي في ملفه الأمني" عن طبيعة التقارير الأمنية التي كانت تكتب عن الوردي، حيث كانت التصنيفات تتراوح بين "الخطرين" أو "غير الخطرين". تميزت هذه التقارير بالدقة والمهنية كما يذكر شكيب كاظم، وكانت المديرية تسمى "مديرية التحقيقات الجنائية". يغطي الملف الفترة من العهد الملكي حتى العهد الجمهوري البعثي في عقد الثمانينات، مما يدل على استمرار مراقبته عبر أنظمة سياسية متعاقبة.
لماذا كان الوردي مصدر قلق للسلطة؟
1. تأثيره في الجماهير: تمتع الوردي بقاعدة شعبية واسعة وأسلوب سلس جعل أفكاره تصل إلى العامة وليس فقط النخبة. لقد كتب عن حياة الناس الاجتماعية وعن قيمهم وعاداتهم وسلوكهم في الحياة اليومية، بلغة يفهمها الجميع.
2. تحليلاته الاجتماعية: قدمت فهماً عميقاً للبنية الاجتماعية العراقية التي يمكن أن تستخدم ضد مصالح السلطة. نظرياته حول "ازدواجية الشخصية العراقية" و"الصراع بين قيم البداوة والحضارة" شكّلت أدوات لفهم الأعطاب العميقة في المجتمع.
3. الاهتمام الأجنبي بكتاباته: استخدام السفارات الأجنبية لكتبه كمراجع لفهم المجتمع العراقي أثار شكوك السلطة.
4. جرأته في نقد التاريخ والموروث: لم يتردد في نقد الرموز التاريخية والدينية بشكل موضوعي وعلمي. كتاب "وعاظ السلاطين" مثل خطراً على الخطاب الرسمي الديني والسياسي.
الكلمة التي هزت العروش
تميز أسلوب الوردي بالسردية التحليلية التي تجمع بين العمق الأكاديمي والبساطة الشعبية، مما جعل كتبه تصل إلى شرائح واسعة من المجتمع. اعتمد على الأسلوب الحكواتي في الكتابة، فجعل من النظريات الاجتماعية المعقدة مادة سهلة الفهم للمتلقي العادي. كانت كتاباته تجمع بين الجدلية والديمقراطية والوطنية العراقية العميقة.
لم يكن الوردي سياسياً بالمعنى الحزبي، لكنه كان متمسكاً بالقيم الأخلاقية ومناهضاً للاستبداد بأشكاله المختلفة. لقد أدرك أن السلطة تخشى الكلمة الواعية أكثر مما تخشى الرصاصة، لأن الرصاصة تقتل فرداً أما الكلمة فتبعث الحياة في أجيال.
الوردي رمزاً
رحل الوردي في 14 تموز/يوليو 1995، لكن إرثه الفكري بقي يلهم الأجيال. عانى الرجل طوال حياته من هجمات مختلفة، من السلطة السياسية إلى التيارات الدينية والمذهبية، لكنه ظل ثابتاً على موقفه العلمي الموضوعي. اليوم، ونحن نقرأ ملفه الأمني، لا نكتشف فقط تفاصيل حياة مفكر عظيم، بل نكتشف أيضاً الآلية التي كانت تستخدمها السلطات لمراقبة المثقفين المستقلين.
الدرس الأهم الذي نستخلصه من قصة الوردي مع ملفه الأمني هو أن الكلمة الحرة قد تكون أقوى من كل أجهزة القمع، وأن المفكر الحقيقي يمكن أن يهزم المنظومة الأمنية بأكملها بقوة فكره وتأثيره في الجماهير. الوردي لم يختر المواجهة المباشرة مع السلطة، لكنه لم يساوم على أفكاره، مبرهناً أن طريق المثقف الحقيقي هو في الإصرار على قول كلمته، مهما كانت العواقب.
يبقى الوردي نموذجاً للمثقف الذي لم يبع ضميره للسلطة، وظل وفياً لرسالته التنويرية حتى في أحلك الظروف. وفي زمننا هذا، حيث لا تزال السلطة تخشى قوة الكلمة، تبقى تجربة الوردي نبراساً لكل مثقف حقيقي يؤمن بأن مهمة المثقف ليست تزيين الواقع بل تشريحه، ليس ترديد أناشيد السلطة بل كسر جدار الصمت.
***
د. عبد السلام فاروق







