قضايا

زهير الخويلدي: الوجود الجيوسياسي للأمة العربية

الوجود الجيوسياسي للأمة العربية بصدد التفكك والتفكيك الممنهج للذات الحضارية من طرف الهجمة الصهيوامبريالية، مقاربة ما بعد كولونيالية.

مقدمة: في عصرنا الحالي، يُعد الوجود الجيوسياسي للأمة العربية أحد أبرز التحديات التي تواجه العالم العربي، حيث يتجلى في صراع مستمر بين قوى الوحدة الحضارية والقوى الخارجية التي تسعى إلى تفكيكها. يركز هذا البحث على عملية التفكك والتفكيك الممنهج للذات الحضارية العربية، الناتجة عن ما يُعرف بالهجمة الصهيونية-الإمبريالية، وذلك من خلال مقاربة ما بعد كولونيالية. هذه المقاربة، المستوحاة من أعمال مفكرين مثل إدوارد سعيد في "الاستشراق" وفرانز فانون في "معذبو الأرض"، تكشف كيف أن الاستعمار لم ينتهِ مع استقلال الدول، بل تحول إلى أشكال جديدة من الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية. الأمة العربية، ككيان حضاري يمتد من المحيط إلى الخليج، شهدت تاريخيًا وحدة ثقافية ولغوية ودينية، لكنها تعرضت لعمليات تفكيك ممنهجة بدءًا من العصر الاستعماري. الهجمة الصهيونية-الإمبريالية، كما سنرى، ليست مجرد صراع إقليمي حول فلسطين، بل هي جزء من استراتيجية إمبريالية أوسع تهدف إلى إضعاف الوحدة العربية لضمان السيطرة على الموارد والطرق الاستراتيجية. يعتمد هذا البحث على تحليل تاريخي ونظري، مستندًا إلى مصادر متنوعة تمثل آراء عربية وغربية وإسرائيلية، ليبرز كيف أن هذا التفكك يؤثر على الهوية الحضارية العربية، ويفتح آفاقًا لإعادة البناء.

الوجود الجيوسياسي للأمة العربية: أسس تاريخية وتحديات معاصرة

يشير الوجود الجيوسياسي للأمة العربية إلى موقعها الاستراتيجي في تقاطع القارات الثلاث (آسيا، أفريقيا، أوروبا)، ودورها في السيطرة على ممرات التجارة مثل قناة السويس وباب المندب، بالإضافة إلى ثرواتها النفطية والغازية. تاريخيًا، كانت الأمة العربية مركزًا حضاريًا في العصور الإسلامية، حيث ساهمت في العلوم والفنون والفلسفة، مما شكل هويتها الجماعية. ومع ذلك، مع دخول العصر الاستعماري في القرن التاسع عشر، بدأت عملية التفكيك. في مقاربة ما بعد كولونيالية، يُنظر إلى هذا الوجود كنتيجة لـ"الاستعمار الاستيطاني"، حيث فرضت القوى الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا تقسيمات مصطنعة، كما في اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، التي قسمت المنطقة إلى دول مصطنعة لتسهيل السيطرة. كما يشير الباحثون إلى أن هذا التقسيم لم يكن مجرد سياسي، بل ثقافي، حيث سعى إلى تفكيك الذات الحضارية العربية من خلال تعزيز الهويات الفرعية (قبلية، طائفية، إقليمية) على حساب الوحدة الجماعية.  هذا التفكك أدى إلى ظهور دول عربية ضعيفة، غير قادرة على مواجهة التحديات الخارجية، مما مهد الطريق للهجمات الإمبريالية اللاحقة. في العصر الحديث، يتجلى الوجود الجيوسياسي في صراعات مثل حرب الخليج (1991) وحرب العراق (2003)، التي أدت إلى تفكك الدولة العراقية وتعزيز الطائفية، مما يعكس كيف أن الإمبريالية تستخدم الصراعات الداخلية للحفاظ على هيمنتها.  كما أن الثورات العربية عام 2011، رغم أنها بدأت كحركات تحررية، أدت إلى مزيد من التفكك في ليبيا وسوريا واليمن، حيث تدخلت قوى خارجية لتعميق الفرقة.

التفكك والتفكيك الممنهج للذات الحضارية العربية

يُقصد بالتفكك الممنهج عملية منظمة تهدف إلى تفتيت الهوية الحضارية العربية، التي تتمثل في اللغة المشتركة، التراث الإسلامي، والتاريخ المشترك. من منظور ما بعد كولونيالي، يُرى هذا التفكيك كامتداد للاستعمار، حيث يُفرض "الآخر" (الغربي أو الصهيوني) كمعيار للحداثة، مما يؤدي إلى اغتراب الذات العربية. على سبيل المثال، يشير سعيد إلى "الاستشراق" كأداة لتصوير العرب كـ"متخلفين"، مما يبرر التدخل الإمبريالي. في سياق المنطقة العربية، أدى إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 إلى النكبة، التي لم تكن مجرد نزوح فلسطيني، بل بداية لتفكيك الوحدة العربية. حرب 1967 أكدت هذا التفكك، حيث خسرت الدول العربية أراضيها، مما أضعف الروح الوحدوية وأدى إلى انحسار الفكر القومي العربي.  كما أن السياسات الإمبريالية، مثل دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، ساهمت في تعزيز الفرقة الطائفية، كما في العراق وسوريا، حيث أصبحت الهويات الفرعية أداة للسيطرة. في اليمن، على سبيل المثال، يُرى التفكك كنتيجة لتدخلات خارجية تحول الصراع الداخلي إلى حرب بالوكالة، مما يعكس كيف أن الإمبريالية تستغل الضعف الداخلي لتعميق التفتيت.  هذا التفكيك ليس سياسيًا فحسب، بل ثقافيًا، حيث يؤدي إلى فقدان الثقة في الذات الحضارية، وانتشار الاغتراب الثقافي كما وصفه فانون.

الهجمة الصهيونية-الإمبريالية: روابط وآليات

ترتبط الهجمة الصهيونية بالإمبريالية الغربية منذ البداية، حيث كانت الصهيونية أداة للاستعمار البريطاني في فلسطين. كما يشير الباحثون، فإن الصهيونية ليست مجرد حركة قومية يهودية، بل شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني الذي يهدف إلى "إزالة السكان الأصليين".  في فلسطين، أدى ذلك إلى تدمير الهوية العربية من خلال الاستيطان والحروب، كما في غزة حيث يُرى الصراع كامتداد للاستعمار. من منظور ما بعد كولونيالي، تُعتبر إسرائيل "قاعدة للإمبريالية الغربية" في المنطقة، حيث تساعد في منع الوحدة العربية لضمان تدفق النفط والسيطرة الاستراتيجية.  هذا الارتباط يظهر في الدعم الأمريكي لإسرائيل، الذي يتجاوز 3 مليارات دولار سنويًا، مما يعزز التفكك العربي. كما أن حرب أكتوبر 2023 في غزة كشفت عن حدود الهيمنة الإسرائيلية، حيث أدت إلى إعادة اكتشاف الوكالة العربية في الدبلوماسية. ومع ذلك، هناك آراء إسرائيلية ترى الصهيونية كحركة تحررية، لكنها تُنتقد في السياق الما بعد كولونيالي كشكل من أشكال الاستعمار الذي يعتمد على الإمبريالية للبقاء.

مقاربة ما بعد كولونيالية: إعادة قراءة التاريخ وآفاق المستقبل

تساعد النظرية الما بعد كولونيالية في فهم كيف أن الهجمة الصهيونية-الإمبريالية ليست مجرد عسكرية، بل ثقافية، حيث تفرض روايات تاريخية تُهمش الرواية العربية. على سبيل المثال، يُرى الاستعمار في فلسطين كـ"أرض بلا شعب"، مما يبرر الاحتلال.  هذه المقاربة تدعو إلى إعادة بناء الذات من خلال استرجاع التراث العربي-إسلامي، كما في نماذج العصر العثماني أو الحركات التحررية.

خاتمة

في المجمل، يُعد التفكك الممنهج تحديًا، لكنه يفتح فرصًا لإعادة الوحدة. مع ظهور قوى متعددة الأقطاب مثل الصين وروسيا، يمكن للعرب استعادة وكالتهم، كما في الدبلوماسية السعودية-الإيرانية.  يتطلب ذلك رفض الهويات المفتتة وبناء نموذج حضاري جديد يجمع بين التراث والحداثة، لضمان وجود جيوسياسي قوي. فكيف يمكن ايقاف موجات التفكك والتفكيك التي تهب بشكل عاصف على المنطقة العربية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

في المثقف اليوم