قضايا

عبء الذكاء للكاتب جون نوستا

John Nosta

ترجمة: حاتم حميد محسن

***

في الشطر الأكبر من التاريخ الإنساني كان الذكاء نادرا، التفكير أخذ وقتا، والفهم العميق والبصيرة وصلا ببطء وتشكّلا بالتجربة المعاشة. الادراك وجد عقبات وهذه العقبات منحته جوهرا ووزنا. هذا الافتراض ينهار اليوم.

الذكاء الصناعي جعل الادراك غزيرا لكنه محفوفا بالمخاطر. الأجوبة تصل فورا والأنماط تظهر بسهولة تامة او بجهد قليل جدا. الحكم مغلّف تكنلوجيا ويُمنح بثقة تنافس ان لم تتجاوز ثقتنا. المسألة الرئيسية هنا هي ان هذا ليس مجرد تقدم تكنلوجي آخر وانما يجسد المرة الأولى التي يبدو فيها الادراك البشري نفسه على منحنى التقادم. نحن استبدلنا الأدوات السابقة، لكننا لم نستبدل ابدا التفكير. ذلك يفسر لماذا تبدو هذه اللحظة مختلفة جدا. الذكاء الصناعي لا يوسع جهد الانسان بنفس الطريقة التي توسع بها المكائن العضلات او السرعة. انه يشغل منطقة كنا نفترض انها متفردة للإنسان بما في ذلك الاستدلال والتركيب والتفسير. في عدة مجالات، يؤدي الذكاء الصناعي عادة وظائف اكثر كفاءة من الانسان. وهذا ادّعاء يرفضه العديد من الناس لأنه يتناقض مع الكيفية التي فهمنا بها التقدم – بطيء عموما ومتدرج وتتخلله تغيرات مفاجئة.

الذكاء الصناعي متفوق على الانسان في كل شيء بدءاً من تشخيص المشكلة الى الابتكار. هذه لم تعد حالات غير مألوفة او عروض توضيحية معملية وانما حقائق عملية مندغمة في حياتنا. وحتى الاخلاق التي لطالما عوملت على انها إنسانية آمنة، اثبتت انها اكثر قابلية للتنظيم الممنهج مما هو متوقع. القيود الأخلاقية يمكن كتابتها والمقايضات يمكن صياغتها بشكل رسمي، وحتى الممنوعات يمكن ادارتها . ما شُعر به يوما ما كإنسان غير قابل للاختزال يدخل وبشكل متزايد ضمن أنظمة الذكاء الصناعي. ربما الاكتشاف الغريب هنا ليس ان المكائن تفتقر للأخلاق وانما ان معظم ما نسميه تفكير أخلاقي كان اكثر إجرائية ورسمية مما نرغب الاعتراف به. السؤال لم يعد ما اذا كان الذكاء الصناعي سيصبح متفوقا معرفيا. في عدة وجوه، هو سلفا كان كذلك. السؤال الأعمق هو ماذا يحدث عندما يغير الذكاء ذاته الصنف. عندما يصبح الذكاء وفيرا، تتغير قيمته. ما يصبح نادرا ليس الادراك وانما الملكية. التحول الجوهري هنا هو من البصيرة والفهم العميق الى المسؤولية. وبعبارة أخرى، انه ليس الأجوبة وانما المسؤولية التي تحفز عليها تلك الأجوبة.

هذا هو عبء الذكاء

عندما يصبح الذكاء الصناعي اكثر قدرة، سترتفع كلفة الانفكاك عنه. التوصية المعيبة من نظام قوي تحمل عواقب اكثر من تلك التي تأتي من وسيلة اختيارية محدودة. وفي هذا السياق يصبح التفويض اكثر اغراءً في المكان الذي يكون فيه أكثر خطورة. كلما كان الذكاء الصناعي أذكى كلما كان التوقف والانفكاك أسهل، وبعمل كهذا يكون السعر أعلى .

هنا الحقيقية الرئيسية: الذكاء الإنساني لم يعد يُعرّف بواسطة انتاج أجوبة افضل. انه يُعرّف عبر تحمّل نتائج الأجوبة التي لا نفهمها بالكامل. العديد منا يشعر سلفا بهذا التحول حتى لو لم نسميه. عدم الارتياح الصامت الناتج من تأييد توصية غير مقتنعين بها. الدفاع المزعج عن استنتاج يبدو صحيحا لكنه جاء من مكان آخر. هذه اللحظة عندما تكون مخرجات الذكاء الصناعي ذكية ويصعب تحدّيها، وهي أيضا اللحظة التي تقع فيها المسؤولية علينا بشكل كامل. عدم الراحة تلك ليست فشلا. انها شعور بالذكاء دون تأليف.

هذا العبء ربما اكثر تحديا. انه يتطلب "حضورا معرفيا" في أنظمة صُممت لكي يبدو فيها حضور الانسان غير ضروري. انه يدعونا لنبقى مسؤولين في اللحظة التي تدعو بها الأتمتة الى الاستسلام. هذا قد يدفعنا نحو هامش صنع القرار، وهذا الهامش ليس تافها.

تلك هي النقطة التي تتصادم عندها القيم، ويتراكم الأذى، وحيث يكون انخراط الانسان في الأفكار غير التقليدية أقل اختيارا وأكثر ضرورة. الخطورة الواقعية للذكاء الصناعي ليست في ان المكائن سوف تفكر أفضل منا. هي في ان التفكير سيشعر انه تام بدوننا. اذا كان الادراك البشري يتضاءل فلا يمكن ان يكون رد الفعل فقط في فكرة لاحقة او حنينا الى الماضي. انه يجب ان يكون يقظة متحققة من خلال الرفض المستمر والجاد للانسحاب فقط بسبب ان الذكاء لم يعد يتطلب مشاركتنا. اليقظة ليست مشاهدة من مدرجات وانما ان تبقى حاضرا معرفيا داخل تكنلوجيات تعمل بشكل مثالي بدوننا.

ان مستقبل الذكاء ليس منافسة بين أذهان. انه اختبار لما اذا كان الناس يرغبون بالبقاء مسؤولين في عالم لم يعد فيه الذكاء يحتاجهم للعمل.

ان عبء الذكاء ليس حول الحفاظ على سيادة الانسان وانما حول رفض التخلي عن المسؤولية فقط لأن التفكير اصبح سهلا، ذلك العبء سوف لن يختفي مهما كانت درجة ذكاء أجهزتنا.

***

............................

The Burden of intelligence, psychology today Dec17,2025

John Nosta منظّر في الابتكار ومؤسس مركز Nosta Lab وهو مركز أبحاث تكنلوجي معترف به عالميا لرؤيته المحفزة للتحول الرقمي.

 

في المثقف اليوم