قضايا

أحمد بلحاج: ضوء الصمت وبلاغته

في مجرة الصمت تدخل ذوات الكائنات لتتجدَّد، وتعيد الحسابات مع نفسها قصد فهم محيطها كلما التبس عليها وتغمَّم، فهي تزويدٌ للذات بدم جديد، وأكسجين نقي يعينها على الاستمرار في الوجود من غير مبالاة بجراحاته، واندفاقات حرائقه.

والنصوص باعتبارها ذوات هي الأخرى لا تشذ عن الدخول في هذه المجرة إنْ هي أرادت أن تفصح عن شهواتها، وأن تتمدَّد في الزمن، فالصمت وحده هو المِجَنُّ الذي يقيها من التكلُّس، ومن الغرق في الثرثرة الفاقعة، والانصباغ بالضحالة المزمنة.

فدخولها فيه شبيه بدخول الصوفي الخلوة للتأمل واكتساب نوع من الضوء، به تحصُل على رونق مثالي. ولا يخفى أن كل نص في الحياة؛كائنا ما كان؛ له جسد مادي أو معنوي، وكينونة تطْلب الحوار مع الخارج، والنظرَ إليه بصورة خاصة، وهذا لا يتأتى إلا بامتلاك فن الصمت الذي يدفَع المزعجات، ومختلف معيقات التواصل الحق.

كيف يتجسد فن الصمت هذا؟

وما هي أسُسه التي تجعل النص يجذب العقلَ إلى ضوء صمته، ويشغله ببلاغته عن كل ما عداه؟

 إن الصمت هو القوة الجبارة الخفية في نص ما، والتي يفتقر المتلقي إلى بوصلة لاكتشافها، وإلى حصافة لاستخدامها في وجوه الحكمة والجمال. وهذه القوة أنواع، ليس السكوت واحدا منها، فهي وجه من وجوه الكلام، وفي أحيان كثيرة يصير لها الوقْع الأقوى والأبلغ من كل أشكال الكلام. والمتأمل في طبيعتها سيجد أن التحلِّي بها ما هو إلا دخول في باب النضج والحكمة، حيث إن لباس الحكمة ـ بمعنى أقصى درجات الفنية والإبداع في النص خاصة ـ يستلزم صمتاً أي جرعات عاليات من صحو الصمت.

وإن التنقيب عميقاً في فلسفة الصمت سيجعلنا نلحظ الفرق بينه وبين السكوت، حيث السكوتُ ألصق بطبيعة الجماد، بينما الصمت إعلانٌ بوجود الحياة، فسكوت الإنسان دلالة على موته، وصمتُه على دلالة فكره، مثله في ذلك مثل النص على مستوى الوجود بالفعل. فوظائفه تتمثل في التأثير والإيحاء، والحكمة، واستثارة الآخر، كما أن له قدرة على إقامة العلاقات بين النصوص الأخرى التي يفسِدها الكلام في كثير من الأحيان. يهمس للمتلقي ببعضِ أسرار الوجود، ويحرره من أقنعة الكلام، ويدخله في غوامض الكون، وخافي النزعات البشرية. فصمت النص إذن ليس إلا تعبيرا عن حب مضاد مدفوع إلى أقصاه، أي أنه وجه آخر للعشق في الضوء الخفي للصمت. حيث مساحات أخرى جديدة من التأمل والحلم يكون الكلام فيها لغوا سخيفاً، وثرثرةً قاتلة. فالصمت هو البلاغة المجهولة في النصوص.. بلاغة تَخفَى عن القارئ الذي لا يملك إلا كنزا من الثرثرة يفوق كل الكنوز، فهذا وأشباهه لا تُبهرهم روعةُ الصمت في النصوص، ولا يُقيمون لها وزنا، لأنهم مسكونون بصخب السطوح، لا بصمت الأعماق وضوئه الساطع.

فكل صمت هو مصدر قوة للذات الصامتة، وضوءٌ تنكشف به معانيها المتأبية على الانكشاف، ونسقٌ خفي في الخطاب الشعري على الخصوص، يُسهم في دفع حركتِه ويوجِّه الدلالة في العملية التواصلية. وله أبعاد ودلالات في النص الشعري تحضُر حين نعجز عن توصيل المعنى أو حين تتعطل لغة الكلام؛ وهو عنوان بلاغة فريدة عندما يكثر اللغو، وهو سبيل الإقناع حين تفشل مستويات اللغة عن التأسيس، ومن ثَم أصبح عنصرًا فاعًلا ومعطًى ونسقًا حاضرًا في كل خطاب.

 فاللسان قد يُمسك عن الكلام، ولكن النص يستحيل أن يُمسك لسانه عن الصمت، لأنه نبضُه السري الذي يُمده بالضوء، فالصمت ظاهرة زئبقية متلونة لا نكاد نعثر عن خيط ناظم ينسجها، فهي بلاغة وبراعة من ناحية، وغموضٌ وتَخفّ من ناحية أخرى، ولكنه في كل الأحوال لا يُعتبر نشاطا سلبيا خالصا أو موقفا عدميا في أي نص، وإنما هو مُكَون من مكوناته، كما هو شأن الشقوق والفراغات فيه. وقد عبَّر عن هذا المعنى الفيلسوف السويسرى (ماكس بيكارد) فى كتابه «عالم الصمت» حين قال: «لا يستطيع المرء أن يتصور عالمًا ليس فيه شيء سوى اللغة والكلام، لكن يستطيع أن يتخيل عالمًا لا يكون فيه شيء إلا الصمت»، إنه حاضرٌ دائمًا وبصورة كلية في ذاته، ويملأ تمامًا الحيز الذي يَظهر فيه، ولا يَكون مرئيًا، وذلك لأن وجوده واضح بجلاء، وممتدٌّ إلى أبعد المسافات، مع أنه قريب جدًا منا بحيث نُحسه بصورة ملموسة كما نتحَسَّس أجسادنا؛ إنه غير محسوس مع أننا نشعر به مباشرة.

وإذن؛ فهو شرط واعٍ داخلَ النصوص، يَسكنها وتسكنه، ومبدأٌ أونطولوجى يدخل في نسيجها كتجربةٍ جمالية في أفق الشعر الذي لا أفُق له غير الصمت الخفي بوصفه إجابةٌ رائعةٌ، لا تتقنها كثيرٌ من النصوص، تَمنح المتلقي طاقةً قويةً على التفكير بعُمق، في كل ما يحصُل حوله، والتركيزِ بعقلانية على ممارساته.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

في المثقف اليوم