قضايا
نصير عواد: لماذا نردّد كلمات دون غيرها؟
كثيرون منّا وجدوا في استعادة العبارات الجاهزة سهولة التعبير عن مشاعرهم وافكارهم امام حدث او موقف؛ مثل شعبي، حكمة، قول مأثور، مقطع شعري، جملة مبتورة.. لا نعني بــ "العبارة الجاهزة" تلك المستخدمة في رتابة الحياة اليومية بقدر ما نعني تلك التي تلتصق بلسان صاحبها ويردّدها بشكل تلقائي كردة فعل على عارض مفاجئ. وهذه الظاهرة، التي غالبا ما ترتبط بمن تجاوزوا سن الشباب وصاروا يميلون إلى الاقتصاد باللغة، لا علاقة لها بالثقافة والتعليم ومستوى المعيشة، ولا علاقة لها بجمالية العبارة ووضوحها ومصدرها، فالعقل الإنساني لا ينشغل فقط بالمنطقي والموضوعي والمعقول، فقد يردّد المرء كلمات صوتية لا معنى لها، تبدو كالهذيان او الهمهمة، ولكن الأهم هو انسجام ذلك مع اللحظة المعينة المرتبطة بمزاج صاحبها. كذلك ليس بالضرورة ان يكون الدافع لترديد عبارة ما جودتها وصحتها، ولا حتى نزاهة وموقع قائلها، ولكن المهم هو طريقة توظيفها في سياق اللحظة، فكثير من الاقوال المؤثرة قالها مجانين أو ضحايا أو قتلة لا يتمتعون بسمعة طيبة، ثم التصقت بالذاكرة الاجتماعية. وما زالت اقوال الحجاج بن يوسف الثقفي بحق أهل العراق تتردّد على ألسنة العامة، وعبارة جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازي عن المثقفين، واشعار أبو نؤاس عن الندماء، وكلمات الحسين بن علي في الظلم.. فتعافى المجتمع، أو تردي قيمه الاخلاقية، غالبا ما يستدعي قصائده وأمثاله وأقواله التي تنسجم مع ظرفه.
نعود إلى السؤال؛ لماذا تلتصق بألسنتنا عبارات دون غيرها، وتحجز مكانا لها في تلافيف ذاكرتنا، نستعيدها بوعي او دونه؟ فهل المفاجأة هي التي تستدعي رد فعل ينسجم معها فتحضر العبارة؟ ام الإحساس بظل حادثة قديمة هو من يستحضر العبارة، أم ان فعل الاستعادة حالة طبيعية لترميم للذاكرة بعد ان تتراكم الحوادث وتندثر؟ وهناك أسئلة أخرى، إذ لا قاعدة ثابتة في فعل الاستعادة. الشاعر والسياسي (ناصر الثعالبي) عاش حياة محتدمة، في حين ان مقطعا شعريا علق بذاكرته أعوام طويلة يستعيده في لحظات تأمله، يبدو من بعيد لا علاقة مباشرة له بتجربة الشاعر (افطرّه هم ما بيچ يا روحي؟! الورد معذوره منّه!) الثعالبي لم يوضح سببا لتعلقه بهذه الجملة الشعرية العميقة التي ضمنها الشاعر مظفر النواب قصيدته (جايتنه مزنة)، وليس من السهولة فهم علاقتها بتجربة الثعالبي، ولكن يبدو ان الجملة غاطسة في الماضي ومرتبطة بحادثة مشابهة، يجري استحضارها لغرض التوازن الداخلي. بكلام آخر الثعالبي يستعيد الجملة الشعرية له وليس لنا، يرددها حين تدهسه الذكريات، وكأن تجاورا بين الحوادث، أو بين احاسيس الماضي والحاضر، هو الذي يؤدي إلى استعادتها وترديدها (افطرّه هم ما بيچ يا روحي؟! الورد معذوره منّه!)
أن نستل جملة من قصيدة شعر تشكل قطعة من أرواحنا، نردّدها بتلذذ عقود طويلة، لا يعني بأية حال أنها عظيمة أو أن ذائقتنا الشعرية "ذهبية" وكذلك لا يعني ان الشاعر فطن إلى ذلك قبلنا، ولكن اسرار القول الشعريّ هي التي تمس شيئا في ارواحنا في لحظة معينة من سموها، او انكسارها، فتجعلنا نعلق بالجملة الشعرية ونردّدها بصوتٍ خافت. بالطبع ترديد الجملة الشعرية وقوة التصاقها بالذاكرة مرتبط بطبيعة الفرد، وقد تختلف دلالته بين العاشق وغيره، بين المترف وغيره، بين الثوري وغيره. فللشاعر "علي الشيباني" قصيدة شعر قرأها أيام المد الثوري بالعراق في سبعينيّات القرن الفائت، التصق منها بذاكرة الروائي "سلام إبراهيم" مقطعا ردّده أعوام طويلة (يا ريتك تخلصني، الحزن مثل الخبز، مثل القميص) يروي "إبراهيم" كيف أنه صادف يوم سماع القصيدة أحد معارفه على دراجة هوائية بالشارع ثم توقف وأنشد تلك الصرخة الشعرية بصوت عال ويده تعت بقميصه. إنّ استعادة "إبراهيم" هذا المقطع الشعري دون غيره تشكل مادة للتأمل، فللشيباني قصائد أجمل وأعمق، فلماذا علقت بذاكر "إبراهيم" هذه الجملة الشعرية، ردّدها في البارات والجبال والمنافي طوال أربعين عام. تكرار الجملة لا يعتمد كليا لا على الذاكرة ولا على اللغة، وإن كان يوظفهما، فهي عملية نحت فردية تعتمد تجربة الفرد وطبيعة الحوادث التي تضغط لاستحضار جملة شعرية دون غيرها. قد تكون عروق هذه الجملة الشعرية مطمورة في شوارع مدينة الديوانية، وان معناها في مكان آخر وظروف أخرى، وأن "إبراهيم" في استعادتها يبحث عن علاقة بين لحظتين حدثتا في زمنين مختلفين. على العموم فعل الاستعادة هنا لا يأتي من فراغ، خصوصا وأن "إبراهيم" من أقرب أصدقاء الشاعر علي الشيباني، حفظ أشعاره ووثق سيرته. وعندما توفى الشاعر علي الشيباني كان "إبراهيم" بالمنفى، وفي عودته بحث عن قبره، وقرأ عنده ذات المقطع الشعريّ، ولكن هذه المرة بجسدٍ هدّه المنفى (يا ريتك تخلصني، الحزن مثل الخبز، مثل القميص).
إنّ أغلب العبارات الجاهزة التي التصقت بذاكرتنا وألسننا هي صورة من تشابك الماضي بالحاضر، استنفذت الكثير من الوقت لتثبت في ذاكرتنا، وتتكرر على ألسننا. بمعنى انها ليست لنا، وأحيانا لا نعرف صاحبها ولا ندري بكم من الأعوام سبقتنا، وبالتالي نحن ناقلين لها، نتوسط من قال ومن سمع، ونردّدها كنوع من المشاركة الاجتماعيّة. اعطى ذلك الانطباع بقرب فعل الاستعادة والتكرار من الثقافة الشفاهيّة، نلمسه في كثرة الاشعار الشعبية والامثال التي نردّدها أحيانا دون سبب واضح، أو دون معرفة بأصل العبارة ومعناها. فكثير من المواقف في حياتنا لا اسم لها وقد تحتاج الإشارة إليها فقط كلمة او همهمة او هزة يد او عبارة صوتية لا معنى لها ولا جذر لغوي. فعبارة (تهيّ\بهيّ) أو تهيه\بهيه) التي تبدو خارج نظام اللغة، عبارة شائعة في مناطق الفرات الأوسط بالعراق، باتت مقبولة في ثقافة مشتركة ولهجات متقاربة. هذه العبارة الصوتية لا معنى محدّد لها، معناها يتشكّل اثناء الحدث إن كان يأسا او استغرابا او رفضا أو سخرية. إنّ الاستعمال الواسع لعبارة (تهي\بهي) لا يوحي بانها فضلة لغوية، وأنها خارج نظام اللغة، بقدر ما هي حالة انسجام بين الحس الشعبي والحدس اللغوي، تساعد في فهم العبارة والقدرة على توظيفها حسب طبيعة الموقف. ينبغي التأكيد هنا على ان العبارات الشائعة قد لا تلتصق بكل الذاكرات، وليس على الدوام لها ذات المعنى، وقد يختلف الافراد عن المجموعات في أسلوب استعادتها وتوظيفها. فالأفراد غالبا ما يرددون عبارات مشهورة ومعروف سياقها الثقافي\الاجتماعي، في حين ان المجموعات لها مسلك مختلف في ترديد الاقوال عن الافراد، بسبب الطبيعة اللاواعية التي تعيشها المجموعة، كما هو في عبارة (تهيّ\بهيّ) المجهولة المصدر. أردنا القول انه فيما يخص الثقافة الشعبية لا يمكننا الجزم بأمر معين، فقد تنتشر عبارة واضحة المبنى لكنها عاطلة المعنى كما هو في عبارة (ليش يا ربي.. أوف يا ربي) التي يرددها العراقيون عندما تواجههم مشكلة. فهذه العبارة تبدو ظاهريا اعتراض على إرادة رب العالمين، في حين انها عبارة شكوى وتذمر وعتب تعوّد بسطاء الناس على ترديدها وكأن الله جار لهم يسمع ندائهم وشكواهم. وحتى لو جرى توضيح اضطراب عبارة (ليش يا ربي.. أوف يا ربي) فذلك سيكون متأخرا، وستكون العادة قد ذهبت بعيدا في صقل الألسن والنيات. في لقاء ممتع جمع طلاب عرب بالراحل "أميل حبيبي" بموسكو العاصمة روى فيه حكاية مناضل فلسطيني كان يردد على الدوام مقطعا شعريا لا يعرف قائله (لولا الحياء لعادني استعمار\ ولزرت قبرك والحبيب يزار) روى الراحل كيف أنه صحح له الخطأ، استعبار وليس استعمار، وأنه مقطع من قصيدة لجرير في رثاء زوجته أُم حزرة "خالدة بنت سعد" وأن الاستعمار لم يكن موجودا زمن الدولة الأموية. روى الراحل كيف ان صديقه اقتنع بكلامه، لكنه استمر على تكراره (لولا الحياء لعادني استعمار\ ولزرت قبرك والحبيب يزار). حكاية "أميل حبيبي" مثل كتاباته ملفوفة بسخرية سوداء، قال يومها " نحن بهؤلاء واجهنا الاحتلال الاسرائيلي".
تحدثنا عن "العبارة الجاهزة" الراكدة في الذاكرات وكيف أن استعادتها يعتمد على ظروف برانية، مثل تجاور الحوادث والمواقف، أو انبعاث الاحاسيس التي تربط الماضي بالحاضر، وكذلك قلنا ان لا قاعدة لالتصاق العبارات بألسن أصحابها، فقد يكون العارض المرضي هو من يصنع، او يستعيد العبارة، فالدماغ ما زال طلسما عند علماء الاعصاب والطب النفسي. يُروى عن سقوط أحد المقاتلين الشيوعيين هو وبغلته من جبل عال، مات والبغل وحدث ارتجاج في طاسة رأس راكبه "أبو سرور" هكذا كانوا يلقبونه. ثم عجز "أبو سرور" عن التواصل ومجاراة الكلام، وصار يمسك فقط بنهاية الكلام ويردّده بسخرية، فإذا انتهى كلام المقاتلين بمفردة عن السلاح، سيكمل الجملة أبو سرور (هو سلاحيش يخويه..) وإذا انتهى كلام المقاتلين بمفردة عن مسؤول كبير، سيكمل أبو سرور الجملة (هو مسؤوليش يخويه..) قد لا تتكرر الحادثة ولا الشخوص ولا الكلام، ولكن الإشارات الحسية المنبعثة من تلك اللحظة هي التي تستدعي حضور الجملة، يطلقها أبو سرور ويمضي.
إنّ فعل الاستعادة، كردة فعل على حادثة مفاجئة، قد يكون خاليا من الحروف والكلام، فنجد أحدهم يبتسم دوما بسخرية في مواجهة المواقف السلبية، وآخر اعتاد تحريك يده في الفراغ استغرابا مما يحدث، وثالث يهمهم كلما حوصر بالمصادفات اللعينة. فيما يخص الأخيرة "الهمهمة" فبسبب السكون الذي يلفها ظنّها البعض طارئة تأتي لاختصار الوقت، أو للتحفظ عن الرد، أو انها تسد ثغرة في أسلوب التعبير الذي لا تستطيعه اللغة، في حين ان تكرارها يأتي من عمق روحي غامض، تزداد فاعليته بغياب الكلام. خلو الهمهمة من كلام لا يعني خلوها من مضمون، فتكرارها كوحدة صوتية يؤكد مضمونها. وفي حال خلت الهمهمة من مضمون ستكون أكثر ظلمة، لأنها ستكون من مخ مليء بالأشباح. في الحقيقة نحن نتحدث بالعموم عن الهمهمة، وغالبا ما نؤول أسباب استعادتها، إذ لا سبيل لتبيّن اسرارها، باعتبارها بنية نفسية مغلقة، مفتاحها عند صاحبها. في اللغة "الهمهمة" هي التكلّم مع النفس بصوت خفي، مثل سير الإبل على الرمال، ولكن بحثنا عن معنى للهمهمة فقط في القواميس لن يساعدنا كثيرا. الهمهمة والذهول والتلعثم وحركات الجسم اللاإرادية.. هي سجل للمشاعر والاحاسيس والمواقف الدفينة التي لا تستطيع اللغة حيالها الكثير، وقد تكون أبعد ممّا تشترطه اللغة. إنها رماد اللغة.
***
نصير عواد