قضايا

جودت العاني: مطارحات فكرية..

ايهما الأولي، الوطن أم (محددات) الدين؟

" ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" .. هنا يتم الإثبات بأن الوطن هو الأولي الذي يحتضن الشعب بكل قومياته وكذلك أديانه، والدين منزل بكتاب مقدس على الرسول الكريم محمد (ص) .. والمعنى في ذلك أن (الأرض - الوطن) سباق على الكتاب الذي إنزل على النبي الكريم (ص) وسباق على الكتب السماوية الكريمة التي انزلها الله سبحانه على انبيائه الكرام. ولا شائبة في ذلك وليس هنالك من تعارض أو تناقض أو إقصاء في معنى الحجة إلا في غائية (التضخيم والتقزيم).

والمغزى في هذا النص القرآني أن (الأرض - الوطن) يسبق المعتقدات ويسبق الأديان ويسبق المذاهب .. والمحاجة في هذا المنحى تتناول محاولات تضخيم أحدهما على الآخر أو تقزيم بعضها على الآخر أو إقصاءه .. فالأساس هو اسبقية الوطن، أما الدين فيعد في عرف من يفكر بأحادية مجردة، هو معتقد وفكر مقدس، وهذا صحيح . أما الوطن فهو حاضنة للدين، الذي هو معتقد في الذهن، و(الارض – الوطن) فهو الركن المادي الذي تسكنه الشعوب، إلا أن (روح) الدين تبقى، تتشبعها نصوص التشريعات الوطنية والاجتماعية بصورة متوارثة لكي تتحقق المقاربة المتوازنة بين (المادي والروحي) في تماسك الشعب على أرض الوطن .

البعض يضخم الدين على الوطن فيجعل من الوطن ثانوياً ويقول - ان الدين يجب ان يسود عالمياً، ويتجاوز الوطنية ويتجاوز القومية، والبعض الآخر يضخم المذهب على الدين، وهو جزء من الدين، فيجعل من الدين ثانوياً، والبعض الآخر يحمي الوطن من (تضخيم) الدين ويتخذ من المحددات سبيلا سياسياً ذو مدلولات (آيديولوجية – سياسية)، ولا حاجة هنا لإدخال الدين في السياسة، كما لا حاجة لإدخال السياسة في الدين.

إن تصخيم الدين أو المذهب على الوطن له مرمى تقزيم الوطن وتهميشه.. والسياسة هنا تلعب دوراً كبيراً وخطيراً لغايات (استراتيجية) تتعامل بها بعض السياسات .. كما ان حماية الوطن من (محددات) الدين له مغزى منع (قيود)  الدين من تكبيل الوطن وشل حركته التنموية.. والسياسة هنا تلعب دوراً خطيراً يخل بالتوازن الموضوعي بين المادي والروحي، تلك الثنائية الضرورية في بناء الوطن والمجتمع، ومن دون هذا التوازن يمسي المجتمع والوطن يعانيان من الضعف معتلان ولا يقويان على مجابهة المشكلات الداخلية والخارجية.

ولم يقتصر الأمر على الشعوب والأوطان فحسب، إنما يمتد إلى الحضارات القائمة، طالما أن الحضارات جميعها تقوم على ركنين أساسيين من دعامات التقدم والنمو والإزدهار الحضاري هما الركن (المادي) للحضارة والركن (المعنوي) للحضارة، حيث يشترط بينهما التوازن .. فالحضارة الغربية يتآكلها الآن إختلال التوازن من زمن بعيد وهي على مشارف السقوط  رغم انها قطعت اشواطاً بعيدة في مضمار التقدم الصناعي والتكنولوجي الحديث لكنها ابتعدت كثيراً عن الركن الإعتباري وهو الأخلاق  والقيم .

فالتضخيم والتقزيم حالتان خطيرتان تعكسان حالة الدول والشعوب، فمنها المفككة والمتهاوية ومنها المتماسكة والقوية .. الأولى لا مستقبل لها ما دامت تعيش اختلال التوازن والثانية لها مستقبل طالما تمكنت من المحافظة على التوازن بين بنيائها المادي والاخلاقي .

هنالك عالمان احدهما يطلق عليه العالم المتخلف - وهي تسمية ظالمة ومغرضة - طالما كان للمستعمر القوي الناهب لثروات الشعوب علاقة بتخلف هذا العالم اضافة الى غياب عوامل اخرى كالموارد والثقافة والعقل القيادي.. وعالم آخر يطلق عليه العالم المتقدم - وهي تسمية غير دقيقة طالما ان هذا العالم قد طور نفسه من سرقات شعوب العالم وبنى كيانه على حساب العالم الأخر.. والغريب في الأمر تلك التسميات المفروضة كمفاهيم توصف شعوب العالم بـ(عالم متقدم و عالم متخلف) و (عالم صناعي وعالم زراعي) و (عالم أول وعالم ثالث) و (عالم رابع تكنولوجي وعالم ثالث تسويقي).

ولكن من يصنع هذه المفاهيم، ولماذا؟

الغرب الامبريالي هو الذي يصنع هذه المفاهيم لكي تترسخ في عقلية الشعوب فواصل من الصعب كسرها او تجاوزها.. لأن الغرب يخطط بأن يظل العالم الثالث سوق واسعة لتصريف منتجات العالم الرأسمالي وما على العالم الثالث إلا تسويق المنتجات الأولية الى الغرب. هل هذا هو الواقع فعلي؟ كلا، إنه مصطنع بكل تفاصيله.

الغرب ووكلاؤه حاربوا الدين الاسلامي الحنيف بكل الوسائل، وصنعوا لذلك (منابر وخطباء ووعاض ودعاة ومريدين وحلقات فكر وذكر ومؤتمرات وطقوس) لا اساس لها في التاريخ والعادات والموروث الثقافي . والهدف من ذلك إنهاء الدين الاسلامي الحنيف وإنهاء العرب كأمة، لأن الدين الإسلامي الحنيف يمثل روح الأمة - ولا معنى للجسد من غير الروح - .

فلماذا يسعى الغرب والغافلون إلى عالمية الدين ومحو واقعية الاقوام والشعوب على ارض اوطانها ؟ والله سبحانه وتعالى يقول (وخلقناكم شعوب وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله أتقاكم - ص).

ولما الوطن سباق وهو حاضنة للدين الحنيف بقيمه وثوابته،

فلماذا تضخيم هذا على ذاك؟ ومن سوغ وزين لذلك ولماذا يستهدفون قتل روح العرب وهو الإسلام الحنيف على مذبح الدين ومذبح الحداثة .. وبالتالي من هم اعداء العرب والاسلام؟

***

د. جودت صالح

4/ 8 / 2024      

في المثقف اليوم