قضايا

خالد اليماني: رأسمالية الحب

توطئة: في العصر الرأسمالي المتأخر، ليس الحب علاقة إنسانية خالصة، لقد تحوَّل إلى حلقة في سلسلة الإنتاج الاستهلاكي. المشاعر الصافية التي كان الإنسان يُعبَّر عنها عبر القصائد والأحاسيس المباشرة، صارت تُقاس اليوم بسعر الهدايا وحجم الإنفاق في المناسبات الرومانسية. هذا التحول الجوهري لم يحدث بمعزل عن تحالف الصناعات الثقافية مع آليات السوق، حيث تُوظَّف السينما والإعلان والمنصات الرقمية لخلق احتياجات عاطفية مصطنعة تُترجم مباشرةً إلى مشتريات مادية. يا ترى: كيف نجحت الرأسمالية في اختراق أقدس المشاعر الإنسانية وتحويلها إلى أداةٍ لتعزيز النمو الاقتصادي؟  هذا ما نبحثه في مقالنا.

البنى التاريخية لتسليع العاطفة

تعود جذور تسليع الحب بالطريقة التي تفهمها اليوم إلى حقبة الثورة الصناعية، حين بدأ الانتقال من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد الاستهلاك. ففي القرن التاسع عشر تحديدًا، ربطت الرأسمالية بين المشاعر الرومانسية والسلع المادية عبر اختراع الطقوس الاستهلاكية: "كعيد الحب" الذي أسسته شركات الحلويات الأمريكية في عشرينيات ثم ثلاثينيات القرن الماضي. أستاذ علم الاجتماع المصري أحمد زايد يوضح أن هذا التحول مثَّل "اغتيالاً للعفوية العاطفية"، حيث تحولت الرموز الرومانسية من إبداعات فردية (كتأليف الشعر أو صناعة الهدايا يدوياً) إلى منتجات قياسية تُشترى جاهزةً.

الصناعة السينمائية لعبت دوراً محورياً في تعميق هذه الظاهرة أيضًا. منذ ثلاثينيات القرن العشرين، روجت أفلام هوليود لنموذج الحب الاستهلاكي عبر تقديم علاقات تعتمد على الهدايا الباذخة والعطلات الفاخرة كعلامات للصدق العاطفي. هذه الصيغة حوَّلت المشاعر إلى سردية بصرية قابلة للتسويق، وخلقت وعياً جمعياً يربط بين قيمة الحب وتكلفة التعبير عنه.

آليات التشيؤ وعواقبه الوجودية

1. تشيؤ المشاعر: تشيؤ الحب (Reification) يعني تحويله من تجربة ذاتية إلى شيء مادي قابل للتملك. تعمل هذه الآلية عبر ثلاث حلقات متداخلة:

- تطبيع الطقوس الاستهلاكية: تحويل المناسبات العاطفية إلى فرص تسويقية. يوم الحب (فالنتاين) الذي يدر 25 مليار دولار سنوياً، يخلق علاقة شرطية: "الهدية = إثبات المشاعر". الإعلانات تُظهر باستمرار أن إهمال شراء الورود أو الشوكولاتة يعادل إهمال الشريك.  حتى بساطة الخروج مع الأصدقاء أصبح مرتبط بالشراء والدفع إلى المقهى الفلاني أو المطعم المعين، وهذا الربط متعمد في نسيج كل أوجه الثقافة الحديثة، ليست تعبيرًا عن إرادة الفرد والمجتمع الحقيقية، لكن دائمًا إرادة الرأسماليين الذين جعلوا كثيرًا من مظاهر الحياة الاجتماعية قابلة للبيع والشراء والتداول المادي.

- الاستعاضة الرمزية: استبدال العمق العاطفي برموز مادية فارغة. خاتم الزواج الماسي - وفق تحليل عالمة الاجتماع إيفا إيلوز - لم يعد قطعة مجوهرات، بل تحول إلى "تعبير مادي عن الأبدية" رغم أن 80% من هذه الماسات تُستخرج من مناجم تستعبد العمال!

2. العواقب النفسية والاجتماعية

ينتج عن هذا التشيؤ تشوهات عميقة في البنية العاطفية للمجتمعات:

- الاغتراب العاطفي: يصبح الأفراد غرباء عن مشاعرهم الحقيقية. هناك دراسات عديدة وثقت كيف أن المجتمع الياباني أصبح يرى يربط بين  المواعدة وبناء العلاقات على أنها استثمار مكلف إلى  الحد الذي وصل بهم إلى العزوف عن الزواج بارقام تصل إلى 40% عند الشباب، مفضلين علاقات افتراضية مع شخصيات الأنيمي!

- تآكل الحميمية: العلاقات الإنسانية تتحول إلى معاملات اقتصادية. تطبيقات المواعدة مثل "Tinder" حوَّلت البحث عن الشريك إلى عملية تشبه التسوق، حيث يُقيَّم الأشخاص بمعايير السوق (المظهر، الدخل، المكانة) لا بالتوافق الوجداني.

- التوحيد الثقافي للرومانسية: أفلام مثل "Notebook" و"Titanic" الشهرية صدرت نموذجاً عالمياً واحداً للحب، مُهمشةً الأشكال المحلية للتعبير العاطفي. الكاتبة الجرئية الراحلة نوال السعداوي وصفت هذه الظاهرة بأنها إستعمار للخيال الجمعي!

خاتمة

التحرر من رأسمالية الحب يتطلب إعادة تعريف جذرية لماهية العاطفة ذاتها. الحب الأصيل لا يعرف من خلال اختزاله في القوالب الاستهلاكية السطحية والزائفة، وحتى تجاوزًا للمفهوم الثنائي عن الحب (ذكر وأنثى)، الحب الحقيقي لا يتطلب الامتلاك، هو حب صادق نابع من الاهتمام والقبول للآخر، ولا بد أن يتجسد في حب الوجود أجمع: الطبيعة والحيوان والإنسان، حينا وفقط حينها ندرك حق الإدراك أن الحب وكل المشاعر الإنسانية المكثفة التي نفهم عبرها عمق وسر وجودنا، لا يُمكن أن تُشترى وتباع في السوق، إنما تبقى دائمًا في قلوب الأحباب كتجربة فردية خالصة مهما كانت بساطتها.

***

خالد اليماني

 

في المثقف اليوم