قراءات نقدية
إحسان الزبيدي: قراءة في نسيج الخراب.. العنف والذاكرة في سردية المدينة الممزّقة
تقدّم رواية (أوجاع على نهر الغراف) وهي باكورة أعمال الكاتب الواسطي الدكتور (رحيم جودي) مادة ثرية للدراسة النقدية، إذ تكشف عن تقنيات سردية عديدة من بينها: المزاوجة بين الواقعية القاسية والتكثيف الشعري. استمدّت الرواية قوّتها من قدرة الكاتب على تشريح الواقع الاجتماعي والسياسي لمدينة الكوت ومحلّة (الكريمية) تحديدًا، فقد استطاع الكاتب أن يحوّل تلك المدينة التي عاشت في قبضة الأزمات إلى شخصية سردية محورية تعكس صراعًا وجوديًّا متعدّد الأبعاد.
تناولت الرواية مجموعة من القضايا الجوهرية التي تعكس واقعًا مُعذَّبًا، وقامت على أساس ثيمة الخراب والتحلّل المادي والنفسي، إذ لا يقتصر العنف بوصفه حدثًا خارجيًّا، بل صار بنية ميتافيزيقية سيطرت على الفضاء العام والخاص، وتحوّلت محلّة (الكريمية) إلى (مسرح العبث) إذ يصف السارد العليم العنف الطائفي كصراع "تُعلِنُه الحروب باسم الله"، مؤكدًا تقاطع المقدّس مع المدنّس في سياق الدمار. هذا التوصيف يجعل (سيمفونية الموت) العازف الوحيد، ويحيل الجدران الحاضنة للقذائف إلى شواهد على فشل الحياة.
عالج السارد –ومن ورائه الكاتب- ثيمة الحرب والخراب بما فيها من حضور طاغٍ للعنف، والموت، والأشلاء المتناثرة، وكذلك الصراعات الطائفية والقومية وما أفرزته من قتل وتهجير، وتناول الفقر والحرمان والطبقية، وقضية المرأة والقيود الاجتماعية المفروضة عليها، وسلّط الضوء على غياب العدالة وتفشي العشائرية، إذ صوَّر مجتمع الرواية بأنّه مجتمع يسيطر عليه العنف المنظّم مشيرًا إلى فشل المؤسسات الرسمية وظهور السلطة غير المشروعة.
اعتمد النص على تفكيك مفهوم السلطة التقليدية والحديثة، وسعى إلى توضيح كيف أن العنف هو النظام العلائقي البارز، وهو ما يفسّر تحوّل النزاع إلى حروب بدائية وصراعات لأجل كسب المال والسلطة، حيث تكون السلطة دافعًا ووقودًا لهذه الحروب. هذا التصوير ينقل الصراع من حقل السياسة إلى حقل الاجتماع الأنثروبولوجي حيث يسود المنطق العشائري، ممَّا يقوّض أي أمل في العدالة الاجتماعية أو دولة القانون.
شخصيات الرواية الرئيسة ليست سوى كائنات مأزومة تبحث عن ملاذ آمن، لكنّها لا تجد سوى أوهام الخلاص، فشخصية (يوسف النجار) نموذجًا لـلبطل المُناوئ الذي يمثل نتاجًا مباشرًا للصدمة التاريخية المتمثّلة بمقتل أبيه في الحرب (العراقية-الإيرانية) وما علاقته بالحب والأوهام، وبيعه الكلمات المعسولة بأرخص الأثمان، تكشف عن محاولة تجارة الخلاص، حيث يستثمر عاطفيًّا في حرمان الآخرين بينما هو نفسه باع مشاعره. شخصيته هي تقاطع مؤلم بين الوسامة المفتولة العضلات والماضي المكلوم، ممَّا يخلق تناقضًا يلخّص هشاشة القوة في وجه القدر.
أمَّا شخصية (أحلام) فمثّلت مركز الثقل الدرامي للرواية. عانت من منفى داخلي مضاعف: فقر، وبؤس، وعبء الرغبة المُجهضة (الزواج) التي تمثّل قمة الإدانة الاجتماعية، إذ يُربَط تحقيق الذات الأنثوية بالنجاح في الرهان التقليدي، تحت ظل تسرّب العمر بين الأصابع. (أحلام) كائن حاول الهرب والنجاة من واقع مؤلم عاشته على يد زوجة أبيها الخائنة نحو وهم يوسف النجار، الأمر الذي جعل خلاصها المستقبلي مهددًا بوصفه امتدادًا لوهم الماضي.
اعتمد الكاتب على لغة شديدة الإيحاء، تستخدم التناغم بين العناصر الوصفية والنفسية، إذ يجد القارئ تشخيصًا مكثفًا للمفاهيم المجرّدة، "تتشابك الأحلام كأوراق الشجر"، و"العنوسة تقتل الروح". كما لا يمكن فصل الوصف في هذه الرواية عن الحدث؛ فغروب الشمس ليست ظاهرة طبيعية فحسب، بل هو إنذار بالخراب، حيث "تنزع نحو المغيب" معلناً "هجوم الظلام". هذا التزامن بين الطبيعة والحدث منح النص اتساقًا موضوعيًّا ووحدة عضوية متماسكة، فمقاطع الرواية الستة جميعها خدمت رؤية واحدة وهي تصوير مجتمع مُنهار داخليًا وخارجيًا. كما نجح الكاتب في رسم عوالم الشخصيات وغاص في أعماقها الداخلية وصوّر معاناتها ممَّا أكسبها تعاطف القارئ.
في المحصّلة، أظهرت رواية (أوجاع على نهر الغراف) نسيجًا سرديًا غنيًا وعميقًا مزج بين الواقعية القاسية واللغة الشعرية المكثفة، وتناولت قضايا اجتماعية وسياسية وطبقية معقّدة تمحورت حول شخصيات عاشت في كنف الحرمان والأزمات. فالرواية عمل سردي جاد ومُهمّ، يتمتّع بقدرة فائقة على التقاط التناقضات الحادّة في الحياة المعاصرة لمدن الشرق الأوسط المتأزّمة. امتلك الكاتب ناصية اللغة، واستخدمها بمهارة فائقة لبناء عوالم مرئية ومحسوسة تُدين العنف والفساد وتناصر ضحايا الحرمان. تندرج الرواية ضمن الروايات الواقعية النقدية التي تحاول تشريح الواقع المُركَّب، وتثبت أن الذاكرة والأحلام هما الملجأ الأخير للإنسان في زمن الخراب. لقد نجحت الرواية في تقديم سردية ما بعد الصدمة، حيث يختلط زمن الحرب بزمن الذاكرة. إنه نص يرفض السرد الساذج للبطولة، ويُفضل تشريح الضحية والجلاد في آن واحد، مؤكدًا أن العيش في هذا الواقع هو نوع من البقاء الجريح الذي يدفن الأحلام في "صندوق الصدر" تاركًا القارئ أمام إدانة صريحة للعنف الذي ابتلع المدينة والإنسان معًا.
ولابدّ من الإشارة إلى أنَّ كثافة الحزن وطغيان الطابع السوداوي على الرواية، والإفراط في تصوير البؤس والخراب أدّى إلى إرهاق القارئ. كما أن إيقاع الرواية ليس خطيًا بسيطًا، وإنّما يبدأ بوصف مكثف للمكان والمشاعر، ثم ينتقل إلى استعراض سيرة الشخصيات، ويتصاعد في وصف العنف والخراب. هذا التداخل عكس تداخل الزمن النفسي مع الزمن الواقعي، فضلاً عن أن السرد انتقل بسلاسة بين التركيز على الشخصيات الفردية (أحلام)، و(يوسف النجار)، و(أم غائب)، و(كريم العلاف)، وغيرهم، ووصف المشهد الاجتماعي العام.
لقد امتازت الرواية بلغة شعرية عالية، جعلت القراءة تجربة فنيّة ممتعة على الرغم من قسوة المشاهد، ورفعت النص من مستوى السرد الإخباري إلى مستوى فنّي مؤثّر لكن هذه اللغة الشعرية أخذت مساحة واسعة من الرواية، ووسمتها بميسم الشعرية وابتعدت بها عن الخطاب الروائي المباشر. فقد احتلّت هذه اللغة مساحة لافتة على حساب الأحداث، وعلى الرغم من أن الوصف كان جزءًا من الحدث، وجعل المكان شخصية قائمة بذاتها تعكس حالة المجتمع إلا أن الكاتب بالغ كثيرًا في الوصف الأمر الذي أضعف حبكة الرواية إلى حدٍ كبير، وجعل النص أقرب للرحلة منه إلى السرد الروائي.
***
د. إحسان الزبيدي






