قراءات نقدية

نجلاء نصير: وكر الروح.. تشريح صدمة الحرب وتشظي الذات في رواية

"وكر السلمان" لشلال عنوز

تُقدم رواية "وكر السلمان" للكاتب العراقي شلال عنوز (2020) نفسها كنموذج فائق الأهمية في أدب الحروب العربي الحديث. فهي لا تكتفي بتصوير ويلات المعارك، بل تغوص بجرأة نادرة في العواقب النفسية والوجودية التي تخلفها الحرب على الروح الإنسانية. عبر بناء سردي محكم وشخصيات مركبة، تتحول الرواية إلى مشرحة أدبية تكشف كيف يمكن للعنف المنظم (الحرب) أن يفكك هوية الإنسان ويحوله من ضحية إلى جلاد، في مسار تراجيدي يعكس عبثية الصراعات ودمويتها. هذه الدراسة تهدف إلى تحليل آليات أدب الحروب وتجلياتها في الرواية، بدءًا من عتباتها النصية وصولًا إلى خاتمتها العدمية، مع التركيز على الأسلوب الفني وسيكولوجية البنية السردية والرمزية العميقة.

عتبات النص: تحليل سيميائي لغلاف رواية "وكر السلمان": حين تتحدث الصورة عن الخراب الداخلي

يعتبر غلاف الكتاب عتبة النص الأولى، وبوابة القارئ إلى عالمه. وفي غلاف رواية "وكر السلمان"، نجد تكويناً بصرياً ونصيا متكاملاً، لا يكتفي بتقديم معلومات عن العمل، بل يغمر المتلقي في الجو النفسي المشحون والمأساوي للرواية قبل قراءة السطر الأول.

1. اللوحة الفنية: مرآة الروح المعطوبة

تهيمن على الغلاف لوحة فنية تنتمي إلى المدرسة التعبيرية أو التجريدية، حيث لا تهدف إلى محاكاة الواقع بقدر ما تهدف إلى تجسيد الشعور الداخلي والصراع النفسي.

* الشخصية المحورية (العنصر البؤري):

يتوسط اللوحة شخص يسير، مرسوم بلون أصفر فاقع يميل إلى الأخضر الليموني1. هذا اللون غير طبيعي ومزعج بصرياً، مما يحقق عدة دلالات رمزية:

- العزلة والاغتراب: اللون الصارخ يفصل الشخصية تمامًا عن محيطها اللوني القاتم، مما يرمز إلى عزلة البطل (نعمان) واغترابه عن مجتمعه وعن ذاته السابقة.

- المرض والفساد: اللون الأصفر الشاحب غالباً ما يرتبط بالمرض والعلل النفسية والجسدية. وهو ما يتطابق مع النص الخلفي للغلاف الذي يصف البلاء بأنه "ورم سرطاني"2. الشخصية هي تجسيد لهذا الورم الخبيث الذي خلفته الحرب.

- فقدان الهوية: ملامح الشخصية غير واضحة تمامًا، وهيئتها تبدو مضطربة ومموهة، كأنها في طور التلاشي أو الذوبان في محيطها3. هذا يعكس تفكك هوية البطل وفقدانه لذاته الإنسانية.

* البيئة المحيطة (الخلفية):

الخلفية عبارة عن تكوين من خطوط عمودية بألوان ترابية وخريفية (أخضر داكن، بني، رمادي)، مع بقع حمراء متناثرة. هذه الخلفية تبدو كغابة كثيفة ومشوشة أو حقل من القصب المتشابك.

- متاهة العقل: هذه الغابة الكثيفة ليست مكانًا جغرافيًا، بل هي رمز مباشر لعقل البطل المزدحم بالذكريات المؤلمة والصدمات. إنها متاهة نفسية ضل فيها طريقه ولا يستطيع الخروج منها.

- بيئة الوكر: تتناغم هذه البيئة الوحشية مع عنوان الرواية "الوكر". فالغابة مكان بدائي ومنعزل، وهو ما يتناسب مع طبيعة المكان الذي يمارس فيه البطل جرائمه.

- رمزية اللون الأحمر: البقع الحمراء المتناثرة بشكل خفي في الخلفية هي تلميح واضح ومباشر للدماء والعنف الذي يسود عالم الرواية.

2. العناصر النصية: تكريس للمأساة

تتكامل النصوص المكتوبة مع اللوحة الفنية لتعزيز الرسالة وتوجيه القارئ.

* العنوان ("وكر السلمان"):

كُتب العنوان بخط بارز ولون أحمر قانٍ. اختيار اللون الأحمر للعنوان هو اختيار رمزي بامتياز، فهو لون الدم والخطر والعنف، ويؤكد بشكل مباشر على الطبيعة الدموية للأحداث التي ستتكشف داخل هذا "الوكر".

* النص الخلفي (Blurb):

يقدم النص المكتوب على ظهر الغلاف مفتاحًا تأويليًا صريحًا للوحة وللرواية ككل. فهو يصف بطل الرواية (دون تسميته) بأنه ليس مجرمًا عاديًا، بل هو "البلاء المدمر الذي ورثته الحرب" و"الورم السرطاني الذي نما من ردمها المشؤوم". هذه الكلمات تؤكد أن الشخصية الصفراء في اللوحة ليست شريرة بالفطرة، بل هي ضحية تحولت إلى وحش، وأن الغابة المحيطة به هي "ردم" الحرب الذي نما فيه هذا الورم. النص يكمل الصورة في شرح دقيق لسيكولوجية البطل الذي "يقتص ممن لم تطلها نارها".

3. التكوين العام والخلاصة

ينجح غلاف رواية "وكر السلمان" في خلق تكوين متكامل ومؤثر. هناك انسجام تام بين الصورة والنص، حيث تشرح الكلمات ما ترمز إليه اللوحة، وتجسد اللوحة ما تصفه الكلمات. الغلاف يوحي بالضياع، الألم، العزلة، والجنون، وهو يقدم وعدًا للقارئ بأنه مقبل على رحلة نفسية عميقة ومظلمة في خراب الروح الذي تخلفه الحروب. إنه غلاف لا يبيع قصة بقدر ما يبيع حالة شعورية، وينجح في إثارة فضول القارئ المهتم بالأدب الجاد والعميق.

بوصلة العنوان والإهداء

* العنوان - "وكر السلمان": العنوان مركب إضافي مكثف بالدلالات. فكلمة

"الوكر" تُحيل مباشرة إلى عالم حيواني بدائي، مكان منعزل ومظلم للافتراس، وهو ما يعكس بدقة حالة البطل النفسية وتحوله إلى كائن تحركه غرائز التدمير. أما

"السلمان"، فهي لا تشير فقط إلى قضاء صحراوي معزول، بل تستدعي في الذاكرة العراقية سجن "نقرة السلمان" الشهير، مكان النفي والعقاب. بهذا الربط، يكتسب "الوكر" بعدًا رمزيًا مزدوجًا: فهو سجن نعمان النفسي، ومكان منفاه عن عالم الإنسانية.

* الإهداء - ميثاق مع الضحايا: يأتي الإهداء كبيان صريح يضع الرواية في صف المناهضين للحرب، حيث يهديها الكاتب "إلى ضحايا الحرب، رجالاً، نساء وأطفالاً... إلى الذين تناثرت أشلاؤهم وأحلامهم معاً" ، ويؤكد أنها "شاهدة على دموية الحرب وآثارها". هذا الميثاق يطلب من القارئ ألا يقرأ الأحداث كقصة جريمة، بل كأثر مباشر وكارثي لـ "حماقات مشعليها".

تحليل الشخصيات: نماذج إنسانية تحت مطرقة الصدمة

* نعمان (البطل التراجيدي): هو محور الرواية وتجسيد لأطروحتها. شخصيته مبنية على انشطار حاد بين ماضيه كطالب قانون وشاعر ومحب، وحاضره كقاتل دموي6. المحرك الأساسي لهذا التحول هو

الجرح الرمزي الذي أصابه في الحرب، والذي لم يكن مجرد إعاقة جسدية، بل اغتيال لرجولته وهويته. جرائمه تتبع طقسًا مرضيًا؛ حيث يستدرج ضحاياه إلى وكره ليروي لهم مأساته ويكشف عن جرحه قبل قتلهم8.

* سناء (الفردوس المفقود): خطيبة نعمان، ورغم غيابها في حاضر الرواية، إلا أنها تُمثل كل ما هو نقي وجميل من عالم ما قبل الحرب: الحب، الأمل، والمستقبل. كانت طالبة قانون ذكية وشاعرة. قتل نعمان لها، والذي نكتشفه لاحقًا، كان جريمته التأسيسية التي قتل بها آخر بقايا الخير في نفسه.

* الضحايا (ناظم ومهند): هم مرايا الماضي التي يحطمها نعمان.

ناظم يمثل الصداقة والوفاء، وقتله هو ذروة الخيانة.

مهند يمثل الطموح والحياة الأسرية، وقتله هو تدمير لصورة المستقبل الذي حُرم منه نعمان.

* رحمة (صوت العدالة): صديقة سناء التي أصبحت قاضية تحقيق، تُمثل النظام والقانون والعالم السوي الذي انفصل عنه نعمان. هي الخطر الخارجي الذي يهدد بكشفه، والمواجهة الخاطفة بينهما في الأسواق المركزية من أكثر مشاهد الرواية توترًا.

الحبكة وبنية الأحداث: مسار السقوط الحتمي

تعتمد الرواية على حبكة نفسية دائرية، حيث يكون الصراع الأهم داخليًا والنمط الإجرامي متكررًا.

* البنية المتشظية: عبر الاستخدام المكثف للاسترجاع الفني (الفلاش باك)، تتشظى بنية السرد بين الماضي والحاضر. هذا التناوب الحاد بين ذكريات بغداد المشرقة وجرائم الوكر المظلمة يعكس بدقة عقل نعمان المكسور.

* تصاعد الأحداث: يتصاعد التوتر مع كل جريمة، ومع كل كشف جديد عن الماضي. الذروة ليست حدثًا واحدًا، بل هي لحظة مزدوجة:

داخلية عند الكشف الكامل عن جريمة قتل سناء، وخارجية عند وصول الشرطة ومحاصرة الوكر.

الرمزية في الرواية: تجليات اللاوعي في عالم محطم

تتجاوز الرواية السرد الواقعي لتنسج شبكة من الرموز العميقة التي تمنح النص أبعادًا دلالية ونفسية إضافية.

* الوكر (النفق): هو الرمز المركزي المهيمن. إنه ليس مجرد مكان، بل هو تجسيد مادي لعقل نعمان الباطن، ومقبرة لماضيه، ومسرح لتفريغ عدوانيته. وصفه الدائم بـ "الروائح النتنة" و"القذارة" و"الظلام" يجعله انعكاسًا مباشرًا للتعفن الأخلاقي والنفسي الذي أصاب البطل. وتحوله لوحش نهم للانتقام والدم ،كما إنه يمثل تراجع الإنسان إلى حالة بدائية وحيوانية، حيث تُمارس الجريمة في عزلة تامة عن أعين المجتمع والقانون.

* الجرح الجسدي: إصابة نعمان في الحرب هي أكثر من مجرد عاهة جسدية؛ إنها رمز للإخصاء النفسي والوجودي. عندما يكشف عن "سوأته المشوهة" لضحاياه قبل قتلهم، فهو لا يكشف عن جرح في الجسد، بل عن جرح أعمق في هويته ورجولته وكرامته. هذا الجرح هو المُبرر المريض الذي يسوقه لنفسه ولضحاياه، وهو المحرك الذي حول ضعفه إلى وحشية لا يمكن السيطرة عليها.

* القط الأسود: يظهر هذا الكائن كرمز معقد وغامض. هو ليس مجرد حيوان أليف، بل هو شاهد صامت يمتلك وعيًا فطريًا بالشر. في كل مرة، يحاول تحذير الضحايا ومنعهم من دخول الوكر. يمكن تأويله كـ:

- بقايا ضمير نعمان: جزء من روحه لم يمت بالكامل، انفصل عنه وتجسد في هذا الكائن الذي يحاول التكفير عن جرائمه عبثًا.

- رمز للطبيعة النقية: يمثل الفطرة السليمة التي لم تلوثها وحشية الحرب، على عكس نعمان الذي تم "شيطنة فطرته".

- نذير شؤم: لونه الأسود وسلوكه الغريب يضفي على السرد جوًا من الغيبية، وكأنه رسول من عالم آخر يشهد على المأساة.

* فعل القتل كطقس لتدمير الذات: كل جريمة يرتكبها نعمان هي فعل رمزي لتدمير جزء من ماضيه. ضحاياه ليسوا أعداء، بل هم أصدقاؤه وخطيبته، أي أنهم يمثلون أجمل ما في حياته قبل الحرب: الصداقة، الطموح، والحب. بقتلهم، هو لا يمحوهم من الحاضر فحسب، بل يقتل ذكراهم الجميلة في داخله، في محاولة يائسة لمحو ألمه عبر محو مصدر الذكرى.

الأسلوب واللغة الشعرية: جماليات السرد في مواجهة الوحشية

* لغة الواقعية القاسية: عند وصف أحداث الحاضر – مشاهد القتل وأجواء الوكر – يستخدم الكاتب لغة مباشرة وحادة، تركز على التفاصيل المقززة.

* اللغة الشعرية والمونولوج الداخلي: على النقيض، عندما يغوص السرد في ذكريات نعمان أو مونولوجاته الداخلية، ترتقي اللغة إلى مستوى شعري. هذا الأسلوب يكشف عن الصراع الداخلي، كما في تساؤله: "ما هذه البراكين التي تتفجر في أعماقي، غلاً وحقداً وحريقاً؟".

* الشعر كرمز للبراءة المفقودة: توظيف قصائد كاملة داخل النسيج السردي، كتبها نعمان وسناء، يصبح شاهدًا على ما كان يمكن أن يكون، ويجعل من جريمة قتل نعمان لسناء، الشاعرة والحبيبة، اغتيالًا للجمال ذاته.

سيكولوجية البنية السردية: حين يصبح السرد مرآةً للعقل المحطم

* الزمن المتشظي كعرض من أعراض الصدمة: لا تتبع الرواية تسلسلاً زمنيًا خطيًا، بل تنتقل بشكل فجائي ومضطرب بين الحاضر والماضي. هذا التشظي الزمني هو محاكاة دقيقة لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث لا يعود الماضي ذكرى مستقرة، بل يصبح حاضرًا اقتحاميًا ومؤلمًا.

* هيمنة المونولوج الداخلي: جزء كبير من السرد يُروى عبر صوت نعمان الداخلي، مما يضع القارئ مباشرة داخل عقله المريض، ويجعله شريكًا في معاناته وصراعه.

* "الوكر" كفضاء نفسي: البنية السردية تربط بشكل وثيق بين المكان الخارجي والحالة الداخلية. "الوكر" ليس مجرد مسرح للجريمة، بل هو امتداد مادي لنفسية نعمان المتعفنة

النهاية: الانفجار كفعل عدمي ونهاية منطق الحرب

* تسلسل الأحداث النهائية: بعد تجميع الأدلة، تكتشف السلطات "الوكر" بمساعدة رمزية من القطة السوداء. عند اقتحام المكان، يعثرون على اعترافات نعمان الكاملة 32، وقبل أن يتمكنوا من القبض عليه، ينفجر المكان بعبوة ناسفة كان قد أعدها مسبقًا، مما يؤدي إلى مقتل اثنين من رجال الشرطة وتدمير الوكر بالكامل.

* الدلالات العميقة للخاتمة:

- رفض العدالة المجتمعية: يرفض نعمان أن يخضع لمنظومة العدالة، وينفذ حكمه الخاص بنفسه.

- الخاتمة كفعل حربي أخير: الانفجار ليس مجرد انتحار، بل هو آخر عملية عسكرية يقوم بها، مؤكدًا أن العنف الذي تعلمه هو لغته الوحيدة.

- انتصار الفوضى والعدمية: لا تنتهي الرواية باستعادة النظام، بل بانتصار الفوضى التي ابتلعت القاتل ومطارديه.

- محو الأثر وإفناء الذاكرة: بتدمير الوكر، يسعى نعمان رمزيًا إلى محو جريمته من الوجود، مختارًا "الإفناء" بدلاً من الموت.

ومجمل القول: إنَّ "وكر السلمان" رواية عميقة ومرعبة في آن واحد. إنها عمل أدبي محكم يذهب أبعد من إدانة الحرب ليصل إلى تشريح دقيق للآثار النفسية التي تتركها في النفوس. من خلال لغة فنية متقنة، وبنية سردية تعكس سيكولوجية العقل المحطم، يثبت شلال عنوز أن الجحيم الحقيقي ليس في ساحات القتال، بل في "الوكر" المظلم الذي تبنيه الحرب داخل روح الإنسان.

***

د. نجلاء نصير

دكتوراه الفلسفة في الآداب تخصص الدراسات الأدبية والنقدية من كلية الآداب جامعة الإسكندرية

في المثقف اليوم