قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: تفكك الذات وغموض الرؤيا في قصيدة "نأي في قفا الرؤيا

"للشاعرة د. مرشدة جاويش

The Fragmentation of the Self and the Ambiguity of Vision in the Poem "A Withdrawal Behind the Vision’s Back" by Dr. Murshidah Jawish 

تنطلق هذه القراءة من مقاربة تفكيكية تأويلية تستند إلى مفاهيم جاك دريدا حول الاختلاف والتأجيل، وتستنير برؤية بول دي مان حول انفصال القول عن المعنى في الشعر الحداثي.

يندرج نص "نأي في قفا الرؤيا" ضمن تيار الشعرية الحداثية المتشظية، وهي شعرية تتأسس على تقويض البنية المرجعية للذات، وانزلاق الدلالة الأحادية. ما يجعل النص أشبه بمرآة معتمة تعكس ذاتاً مأزومة، متصدعة، وعاجزة عن بلوغ يقينها الداخلي. هذا التيه الوجودي ليس مجرد خيار جمالي، بل هو استراتيجية فكرية تعبر عن انسحاب المعنى وانهيار المرجعيات الكبرى، كما تؤكده نظريات ما بعد الحداثة.

فالقصيدة تتبدى كخطاب داخلي مأزوم يعيد إنتاج ذاته عبر تموجات متكررة من التساؤل والشك، ما يجعلها نموذجاً لانفجار المعنى وتفتته. هذا الخطاب، الذي لا يطمح إلى إنتاج معنى مغلق أو رسالة واضحة، كما يرى ميشيل فوكو في أركيولوجيا المعرفة، فإن خطاب الذات الحديثة يتأسس على الفراغ لا الامتلاء. أي الذات التي "تتكلم في الفراغ"، وتحاول الإمساك بكيانها عبر اللغة، لكنها لا تجد سوى مرايا مشروخة تعيد إليها أشكالاً من التبعثر.

من هنا، فإن النص يتبنى بنية الأسئلة الأنطولوجية المفتوحة التي لا تروم الفهم بقدر ما تعمق تفتت الهوية، على نحو يحول القصيدة إلى فضاء سردي شعري يتقاطع فيه البعد الذاتي مع التفكيك اللغوي والمعرفي. فلا ذات متماسكة يمكن الإمساك بها، ولا رؤية مكتملة يمكن الاتكاء عليها، بل محاولات مستمرة للهروب من الفراغ نحو فراغ آخر. هذا التوتر بين الذات والرؤيا هو ما يمنح النص عمقه الحداثي، ويضعه في قلب أزمة المعنى التي تعانيها القصيدة الحديثة.

الذات والغياب في أفق التفكيك

تمثل القصيدة تجربة وجودية عميقة تنبثق من ذات تمخر غمار العدم بحثاً عن يقين مفقود، لكنها لا تجد سوى تشظيات لغوية، ومرجعيات متآكلة. فليست الذات في هذا النص كياناً ثابتاً أو مركزاً معرفياً، بل هي أثر لغوي، تظهر في انكسارات الوعي وتهويمات الذاكرة. وهي بهذا تتطابق مع مفهوم "الذات المؤجلة" عند جاك دريدا، إذ تتشكل الهوية بوصفها عملية لا نهائية من التأجيل، لا تدرك إلا عبر الاختلاف والانزلاق.

نقرأ في أحد مقاطع القصيدة:

"أُسائِلُكَ:

هَلْ كُنْتَ ظِلًّا تَسَلَّلَ مِن سُدَّةِ الماءِ؟

أَمْ وَهْماً أَخْفَقَ في رَسْمِ خارِطَةِ الجُذورِ؟"

هذا التساؤل لا يبحث عن إجابة بل يؤكد العجز عن الوصول إليها. فالذات لا تستجلي حقيقتها بل تتساءل عن كونها وهماً أو ظلاً، ما يجعلها كائناً لغوياً مشتبكاً مع ذاته، مهدداً بالانمحاء. ومن اللافت أن أدوات الاستفهام هنا لا تنتج معرفة، بل تعمّق الهوة، ما يعكس انزلاق النص من وظيفة التقرير إلى وظيفة التشظي.

كما أن استخدام مفردات مثل "ظلّ"، "سدة الماء"، "وهم"، "خارطة الجذور"، يكرس هذا النزوع نحو اللايقين الأنطولوجي، ويحول الذات إلى طيف زائل في مرايا اللغة. بهذا المعنى، فإن انهيار تصور الذات لا يتم عبر سياق نفسي أو سردي فقط، بل يتجلى بوصفه تفكيكاً معرفياً يؤكد هشاشة الوعي الإنساني، وانكساره أمام رهانات المعنى.

إن الرؤيا هنا ليست نبوءة أو استبصاراً، بل تمثل العجز ذاته. فـ"قفا الرؤيا" عنواناً دالاً يحيل إلى موقع خلفي، معتم، لا يطل على أفق، بل يلامس ما بعد الرؤيا، أي غيابها. وبهذا التوصيف، تتحول القصيدة إلى ميتافيزيقا للغياب، لا بوصفه لحظة عارضة، بل كجوهر ملازم للكينونة الشعرية.

انزياح اللغة وتكثيف الصور: شعرية التفكيك وجماليات التشظي

تشكل اللغة في قصيدة "نأيٌ في قفا الرؤيا" البنية الحاملة لرؤية شعرية قائمة على الانزياح الجذري من مألوفية التعبير إلى مناطق التوتر الدلالي والتراكب الرمزي. فالنص لا يسعى إلى الإبلاغ أو التوصيل، بل يطمح إلى إنتاج أثر جمالي قائم على التفكيك و الإرباك، وذلك عبر آليات أسلوبية تتضمن الانزياح، والتكثيف، وتعدد الطبقات الدلالية للصورة الشعرية.

في هذا السياق، تمارس الشاعرة اشتغالاً مكثفاً على الصورة الشعرية بوصفها تجلياً لتوتر الذات وانفصالها عن الواقع والمعنى. لنأخذ المثال التالي:

"كَفُتاتِ نُجومٍ عَرَفَتْ طَريقَ السُّقوطِ

دُونَ أَنْ تُلَوِّحَ لِسَماءٍ تَغافَلَتْ عنها"

هذه الصورة الشعرية المركبة تقلب النسق الرمزي التقليدي رأساً على عقب. فالنجوم، التي ارتبطت في الذاكرة الثقافية بالهداية والنور والأمل، تتحول إلى "فتات"، أي بقايا مادية منهارة، فيما تغدو "السماء" – رمز العلو والحضور الإلهي أو المطلق – كياناً متغافلاً، غائب الاستجابة. هذه التحولات تندرج ضمن ما يمكن تسميته بالتقويض الرمزي، حيث يتم قلب التمثلات الثابتة لصالح دلالة مفتوحة، سلبية، ومتوترة.

وتأتي هذه الصورة بوصفها نموذجاً لما يسميه رولان بارت بـ"الكتابة الدرجية" (writing degree zero)، حيث لا يعود النص أداة لقول فكرة ما، بل يصير ذاته موضوعاً للقول، مما يؤدي إلى تعليق المرجعية الخارجية للغة، وتحويل النص إلى فضاء ذاتي خالص. إن هذا التعليق للدلالة المستقرة، وهذا الانتقال من "المرآة" إلى "المتاهة"، يعكس تأثير النظريات ما بعد البنيوية، ولا سيما مفاهيم جاك دريدا حول تأجيل المعنى واختلافه (différance)، إذ تصبح الصورة الشعرية تجسيداً ملموساً لانزلاق الدال عن المدلول.

من جهة أخرى، فإن الانزياح اللغوي يتجلى ليس فقط على مستوى الصورة بل في بناء الجملة الشعرية ذاتها، التي تنكسر على نحو شعري بعيد عن السياق التركيبي المألوف، مما يخلق حالة من الانفصال الإيقاعي والدلالي تسهم في بناء ما يمكن تسميته بـ جمالية التشظي. في هذا الإطار، تتحول القصيدة إلى بنية مفتوحة تقاوم التفسير الأحادي وتدعو إلى تأويل تعددي يقوم على استكشاف الفجوات والفراغات أكثر من تتبع المعاني المغلقة.

وباستخدام هذا الأسلوب، توظف الشاعرة استراتيجية الغموض البناء، لا بوصفه تعمية بل كأداة للكشف عن أزمات الذات والكينونة واللغة. فالغموض هنا لا يعني الغلق، بل يعني التوتر بين التمثل والانفلات، بين الدال والمدلول، بين الذات وظلالها المتكاثرة.

وعليه، يمكن القول إن القصيدة، عبر انزياحاتها اللغوية وصورها المركبة، لا تكتفي بتفكيك العالم بل تعيد تشكيله ككابوس جمالي متشظ، حيث المعنى لا يمنح، بل يطارد في مرايا اللغة المنكسرة. إن هذه الممارسة الشعرية تنتمي بوضوح إلى أفق القصيدة الحداثية المتأخرة التي تتكئ على الرؤيا المضادة واللغة النقيضية لتوليد شعرية التبعثر واللايقين .

تتحول القصيدة إلى بنية مفتوحة تقاوم التفسير الأحادي وتدعو إلى تأويل تعددي يقوم على استكشاف الفجوات والفراغات أكثر من تتبع المعاني المغلقة.

كما يتواشج البعد الدلالي مع الإيقاع الداخلي للنص، الذي يعتمد على التكرار والانكسار العروضي لإنتاج حالة من التوتر الموسيقي المكمل لحالة التشظي، مما يعزز الإحساس بالانفصال والانهيار الداخلي للذات.

التناص وانفتاح النص على مرجعيات متعددة

ينفتح النص على شبكة من التناصات الرمزية والثقافية التي تغني معناه وتعمق هشاشته في الوقت ذاته:

تناص قرآني/صوفي:

عبارة "سُدّة الماء" توحي بتناص مع رمزية الماء الصوفية كمرآة للروح وتستدعي صورة يوسف في الجب...

قول الشاعرة : "استعد وهْمَك من جُبّ الكشف" يعكس تناصاً مع مفهوم الكشف الصوفي لكنه يوظف بشكل معكوس للكشف عن الخواء لا الحقيقة.

تناص شعري حداثي:

تتقاطع عبارات مثل "مرآة وهم لا يُبصر" و"نور خذلك" مع شعر أدونيس ومحمود درويش حيث الرؤيا تتحول إلى خيانة أو عجز...

كما أن فكرة "الركض نحو النور" المحبط تستدعي أصداء من قصيدة "أنشودة المطر" للسياب، لكن بإعادة تفكيك دلالتها..

تناص أسطوري/كوني:

سقوط النجوم دون وداع السماء يحيل إلى أسطورة إيكاروس الذي خانته أجنحته وارتطم بالفراغ لكن دون الاعتراف من السماء أو الخلاص...

بهذا، يتجلى التناص في القصيدة ليس كإحالة معرفية بل كاستراتيجية تفكيك مرجعي للرموز الكبرى التي طالما شكلت الوعي الجمعي ...

اقتبس قول  لبول دي مان:

"ما تقوله القصيدة ليس ما تعنيه، وما تعنيه لا يمكن قوله."

القصيدة بوصفها اختباراً للتيه

تمثل قصيدة "نأيٌ في قفا الرؤيا" نموذجاً شعرياً متقدماً لجماليات ما بعد الحداثة، حيث تنسحب المعاني من مركزيتها التقليدية لتتوزع بين ظلال الدال واحتمالات التأويل. فالحضور يتحول إلى أثر لغوي هش، والمعنى يغدو ظناً مهدداً بالانهيار، والرؤيا تتبدى كاحتمال مراوغ يتوارى كلما اقتربنا منه.

تقوم الشاعرة د. مرشدة جاويش بتفكيك البنية المعرفية والرمزية لكل من الذات والعالم، لتنتج خطاباً شعرياً قائماً على التوتر، واللايقين، والانفتاح التأويلي. لا تقدم القصيدة يقيناً، بل تخضع القارئ لاختبار جمالي ومعرفي يتطلب مساءلة مستمرة، وتأويلاً متعدد المسارات. ويغدو التلقي، تبعاً لذلك، فعلاً شاقاً للقبض على المعنى في فضاء لغوي مشبع بما يمكن تسميته بـ"العنف الصامت"، حيث اللغة متماسكة لكنها مشروخة من الداخل، توحي أكثر مما تصرح، وتراوغ الكشف في كل مستوى من مستوياتها البنيوية والدلالية.

وعليه، فإن "نأيٌ في قفا الرؤيا" ليست قصيدة عن الغياب فحسب، بل هي ممارسة شعرية حية للتيه كاستراتيجية وجودية وشعرية وتأويلية معاً..

وبهذا، تضع د. مرشدة جاويش قصيدتها ضمن امتداد واضح لحساسيات القصيدة العربية الحديثة التي نحت نحو الغموض البناء وتفكك اليقين، كما نجد في أعمال أدونيس ومعين بسيسو وسعدي يوسف…

***

د. فاطمة عبد الله

......................

نَأْيٌ في قَفا الرُّؤيا

يَتَنَفَّسُكَ النِّسيانُ مِن شَقِّهِ الأَعلى

ويَذرُفُكَ سِرّاً على قارِعَةِ الاحْتِمالِ

كَأنَّكَ نُقْطَةٌ في حافَّةِ التَّكْوينِ

أو نَسْمَةٌ عَلِقَتْ

بِثَوْبِ مَلَكٍ خانَهُ البَياضُ

أُسائِلُكَ:

هَلْ كُنْتَ ظِلًّا تَسَلَّلَ مِن سُدَّةِ الماءِ؟

أَمْ وَهْماً

أَخْفَقَ في رَسْمِ خارِطَةِ الجُذورِ؟

تَغورُ عُروقُكَ في مِلْحِ صَمْتي

ويَتَدَلَّى سُهادُكَ مِن أَعْمِدَةِ اللّازَمَنِ

كَفُتاتِ نُجومٍ عَرَفَتْ طَريقَ السُّقوطِ

دُونَ أَنْ تُلَوِّحَ لِسَماءٍ تَغافَلَتْ عنها

وَكُلُّ تَأويلٍ يُصَفِّي رُؤاكَ

يَعودُ إِليكَ غَريباً أَعْمى

يُصَفِّرُ في فَجْوَةِ الظَّنِّ

كُلُّ ما كنتَ

أو تَوَهَّمْتَ أَنَّكَ كنتَ

فصَرتَ نُقْطَةً داكِنَةً

في مِرْآةِ وَهْمٍ لا يُبْصِرُ

يا أَنتَ

أيُّ عُزْلَةٍ أَوْرَثَتْكَ هذا التَّشَظِّي؟

أيُّ مَدىً نَحَتَكَ صَمْتاً على صَمْتٍ

حَتّى تَوَهَّمْتَ أَنَّكَ تَسْكُنُكَ؟

كَمْ مَرَّ طَيْفُكَ في نُسُجِ الرُّؤى

وَما اسْتَبانَ مِنْهُ سِوى صَهْدِ التَّيْهِ!

كَمْ رَكَضْتَ نَحوَ نُورٍ خَذَلَكَ

تَستَجْدِي الرُّؤيا من كَفِّ خَواءٍ يَتَضَخَّمُ

انْهَضْ

واسْتَعِدْ وَهْمَكَ

مِن جُبِّ الكَشْفِ

واقْطَعْ خُطاكَ الأَخيرةَ

في لُجَّةِ النُّورِ الّذي يُكَذِّبُكَ

فَها أَنا

أَكْشِفُ حافَّةَ جَحيمٍ

يَبْتَلِعُ سُؤَالَكَ

دُونَ أَنْ يُجيبَ

ولَمْ أَعُدْ أَذكُرُك

إِلّا كَمَنْ مَرَّ في مِلْحِ جُرحي

ولَمْ يَتَّسِعْ لي

***

مرشدة جاويش

في المثقف اليوم