قراءات نقدية

رزق فرج رزق: عالم يتشكّل بين يدي القارئ.. قراءة في جماليات "كوخ من لبن النساء"

لنجاح عزالدين

في دروب المعرفة حيث تتدفق أنهار الحرفِ وتتوهج أماسي الفكر، تسير "نجاح عز الدين" بخطى واثقة، تحمل بين جنباتِها شغفًا لا ينضب نحو اللغةِ العربية وآدابِها، هي أستاذة استثنائية في التعليم، لم تكتف بالغوص في أعماق النصوص والأساليب، بل جعلت من دراستها الأكاديمية جسراً يعبر نحو آفاق إبداعية رحبة.

حصلت على شهادة الإجازةِ (الليسانس) والماجستير في اللغة والأدب والحضارة العربية، لتواصل رحلتها البحثية في الدكتوراه، متخذةً من "التجريب في القصة التونسية" منارةً لأطروحتها، تنقّبُ فيها عن الجديدِ واللا مُتوقع، وتكشف عن طبقات الإبداع المختبئة.

ولها في حقلِ النقدِ بصمةٌ لامعة، تمثلت في إصدارها النقدي التحليلي لكتاب "المصون في سر الهوى المكنون" لإبراهيم الحصري القيرواني، تحت عنوان "في أفانين الهوى"، والصادر عن دار دال للنشر الإلكتروني في سوريا عام 2019، وهو عمل يغوص في تفاصيل النص القديم ليستخرج منه درر المعاني ويقدمه للقارئِ المعاصر بلغة عصرية ثرية.

ولا تزال رحلتها مع الكلمة متواصلة، وهي تعد لكتاب نقدي جديد يقرأ تجارب إبداعية سردية وشعرية من تونسَ والوطنِ العربي، لتؤكد أن النقد ليس مجرد شرح، بل هو حوار خلاق مع النص.

شاركت في عدد من الملتقيات العلمية والأدبية، سواءً في الجامعة العربية أو كلية منوبة، أو عبر اللقاءات الحضورية والافتراضية، محققة تفاعلاً واسعاً مع جمهورِها وطلاب العلم، ولها إسهامات منشورة في عدة صحفَ ومجلات أدبية وثقافيةٍ ورقية، تؤكد من خلالِها حضورها الدائم في المشهدِ الثقافي.

**

واليوم، تقف "نجاح عزالدين" أمام عوالم مجموعة "كوخ من لبن النساء وأشياء أخرى"، لتسافر بنا عبر سردها الأدبي الذي يجمع بين رقة المشاعر وعمق الرؤية، في رحلة نقدية تليق بتجربة إبداعية استثنائية.

عندما نضع أيدينا على المجموعة القصصية "كوخ من لبن النساء (وأشياء أخرى)" لنجاح عزالدين، فإننا لا نقتني كتاباً فقط، بل نوقع على "عقد قرائي" فريد من نوعه، عقد لا يكون فيه القارئ متلقياً سلبياً، بل شريكاً فعالاً في تشييد عالم النص واستنطاق دلالاته، تبدأ هذه الرحلة التشاركية من عتبات النص الأولى، التي لا تكتفي بالإعلان عن المضمون، بل تُعدّل في أفق توقعنا وتستدعينا إلى لعبة تأويلية شيقة.

كيف لا ننطلق من العنوان؟ كوخ من لبن النساء (وأشياء أخرى) ، إنه عتبة تثير وتستفز الخيال، (الكوخ) يوقظ فينا البساطة والعزلة والبدائية، بينما (لبن النساء) ينقلنا إلى حكايات الجدات وأساطير الخصب والأمومة، هذا المزيج بين الأسطورة والواقع اليومي هو بمثابة النغمة الأساسية التي سترافقنا طوال القراءة. أما الإضافة "(وأشياء أخرى)" فهي كمن يقول لنا: "استعد لما هو غير متوقع، فحدود هذا العالم أوسع مما تظن".

بيان التحرر من قيود الجنس الأدبي

قبل أن نغوص في النصوص، يقف التصدير ليعيد برمجة عقولنا كقراء، إنه يعلنها بصراحة: هذه النصوص هي (قصص، ويوميات، وقد تتعدى ذلك أحياناً)، بهذه العبارة، تهز نجاح عزالدين (أفق انتظارنا) التقليدي، إنها لا تقدم لنا قالباً جاهزاً نضعه في رف "القصة القصيرة" أو "اليوميات"، بل تدعونا إلى تبني استراتيجية قراءة مرنة، هي ترفض أن تتعامل مع الكتابة كما يتعامل "الفقهاء مع النص الديني"، مؤكدة أن "الكتابة عندي تعلمك 'أن تكتب في كل شيء وأن تكتب بكل شيء'"، هذا هو الانزياح الأجناسي الأول، الذي يحطم القيود ويعلن ولادة عقد قرائي جديد قائم على المفاجأة والتعدد.

لغز "القرين": النص الخفي والدور الإبداعي للقارئ

ها نحن ندخل عالم النصوص، ولكن هل ما نقرأه هو كل شيء؟ في مقدمته الثرية، يشير عبد العزيز بركة ساكن إلى ظاهرة أدبية فريدة في هذه المجموعة، يسميها "القرين". "القرين" ليس مجرد نص ضمن النص، بل هو بنية متخفية، شبح نصي يتراءى بين السطور، إنه، كما يصفه بركة ساكن، "نصوص غير مكتملة، تتيح للقارئ كتابتها".

انزياح الزمن والسرد

لا تقدم لنا نجاح عزالدين عالماً خطياً مريحاً، بل تعتمد الانزياح الزمني وتشظي السرد لتخلق واقعاً مكسوراً يعكس حالة شخصياتها وواقعها، في "زمن الضفادع"، تنتقل بنا الكاتبة من صورة امرأة عجوز ترمي الضفادع في الوادي، إلى استعارة مجازية عميقة عن الخطاب الفارغ والفساد المستشري.

(زهرة امرأة تجاوزت العقد الخامس... ترسبت في هذا الوادي الضفادع التي تناسلت، وتضاعفت، حتى صارت قبائل وشعوب... تسمع لها نقيقاً... محدثة ضجيجاً صاخبا.)

الانزياح من الواقعي إلى الرمزي المجازي يستدعي قارئاً قادراً على فك الشفرة، الضفادع هنا ليست حيوانات، بل هي كناية عن "الضجيج" الاجتماعي والسياسي الذي يخنق الفرد، وفي "رفيقة درب"، نلمس انزياحاً آخر في منظور السرد، حيث ينتقل بنا النص من السرد الخارجي إلى تدفق الوعي الداخلي للأب، مقترباً من أعماق الشخصية ومشاعرها المكبوتة.

انزياح اللغة: متعة الانزياح عن المألوف

اللغة هنا ليست وعاء للمعنى فقط، بل هي جزء من الجمالية ذاتها، إنها لغة مشحونة بشعرية عالية، تستخدم الانزياح الدلالي لخلق عوالم موازية، في "عيشة أخرى"، نجد مثالاً رائعاً: (تعانقا الجسدان حتى تماهيا وتخاطبت روحاهما، ثمّ سرت رعشة في كامل جسديهما وتحركت أصابعهما المتشابكة، وراحا يتمتمان بكلام لا يفهمه غيرهما.)

هنا يحدث الانزياح من الحسي (التعانق) إلى الروحي (تخاطبت روحاهما)، ليرسم لنا مجازاً جميلاً عن اتحاد يتجاوز المادة. هذه اللغة لا تخبرنا، بل تجعلنا نحسّ ونتذوق متعة الانزياح عن المألوف. وفي المقابل، في "المنسية"، تستخدم الكاتبة الانزياح نحو العامية والنداءات الحميمة (هيا حبيباتي، دجيجاتي...) لخلق واقعية حسية تلمس القلب مباشرة.

النهايات المفتوحة: القارئ هو من يكتب الخاتمة

لا تقدم لنا العديد من النصوص حلولاً نهائية، بل تفضل الانزياح عن النهاية المقفولة، لتترك للقارئ مهمة ختم المعنى، مصير "زهرة" في "زمن الضفادع" مجهول: "هجرت، زهرة المكان ولم يعرف لها طريقا إلى اليوم." هل هربت؟ أم تحررت؟ أم ضاعت؟ النص يصمت، ليترك الإجابة لنا.

حتى في نهاية "عيشة أخرى" الشعرية، يظل السؤال قائماً: هل ما حدث هو موت أم اتحاد روحي أخير؟ "وراحا يتمتمان بكلام لا يفهمه غيرهما." هذا الانزياح نحو الغموض يحول القارئ من متلقٍ إلى مشارك في صياغة المصير النهائي، مكملاً المشهد بناءً على تجربته هو.

الانزياح.. فن صناعة القارئ الشريك

من خلال هذه الرحلة، تتجلى لنا حقيقة هذه المجموعة: إنها نموذج راقٍ لأدب لا يكتمل إلا بوجود القارئ.. لقد استخدمت نجاح عزالدين استراتيجيات الانزياح المتعددة – انزياح الأجناس، والزمن، واللغة، والنهاية – ليس بهدف الإلغاء، بل بهدف البناء؛ إنها تخلق عالماً قابلاً للتشكل، يتحول فيه القارئ من مستهلك إلى "قارئ مثالي"، قادر على تفكيك الشفرات واستنباط الدلالات الخفية، "كوخ من لبن النساء" ليس مجرد مجموعة نصوص، بل هو ورشة مفتوحة للقراءة والإبداع، تثبت أن أجمل النصوص هي تلك التي نكتبها معاً، كاتبة وقارئاً، في مساحة اللقاء بين السطور.

***

رزق فرج رزق – ليبيا

في المثقف اليوم