قراءات نقدية

طارق الحلفي: من الايجاز الى سطوع المعاني

قراءة في النص الشعري "برقيات" للشاعر اليمني/ محمد ثابت السميعي

هذا النص الشعري الذي بين ايدينا هو قطعة أدبية ذات طابع فلسفي يتعمق في جوانب متعددة من الحياة والوجود الإنساني. يتميز النص بالتركيز على تجارب الأفراد المختلفة وصراعاتهم الداخلية مع الحياة والمجتمع والقدر. يضم النص مشاعر الاستسلام والقوة، العجز والتمرد، مما يجعله تعبيراً عن أصوات مكبوتة تسعى للتعبير عن ذاتها وسط قسوة الواقع.

1. الشكل الأدبي والأسلوب:

يتكون النص من مقاطع شعرية قصيرة ومكثفة.. تتميز باستخدام أسلوب التوازي، حيث يعتمد الشاعر في كل مقطع على تقديم شخصية أو حالة معينة، يتبعها موقف أو اعتراف مختصر يعبر عن مشاعر هذه الشخصية أو موقفها من الحياة.

2. أسلوب الحذف والاختصار:

الشاعر يعتمد على الإيجاز والاختصار في التعبير، مما يجعل كل جملة أو عبارة مكثفة بالمعنى. هذا الأسلوب يترك المجال للقارئ لملء الفراغات وتفسير المعاني العميقة. فعلى سبيل المثال، جملة "لم أعتدي!" التي تأتي بعد وصف الشاعر بأنه "ألقى... وزُجَّ بأبعدِ" توحي بأن الشاعر يشعر بالظلم والعزلة، رغم أنه لم يرتكب ذنبًا يستدعي تلك العقوبة.

3. استخدام الرمز والمجاز:

النص مليء بالرموز والإشارات المبطنة، مثل "الرصيف" الذي يشهد تخرج الطالب وتردده، وهو صورة تعبر عن حال الشاب الذي يقف على حافة الحياة العملية لكنه يتردد في الإقدام بسبب ظروفه أو إحساسه بعدم القدرة على التحكم في مستقبله. كذلك، جملة "رجلاه تحلم بالغد" التي تصف الشخص المقعد تعبر مجازًا عن الأمل المحاصر داخل جسد عاجز، بينما "هاكم يدي" تعكس روح التضحية والمساعدة رغم العجز الجسدي.

قراءة وتحليل

1. المقطع الأول:

"مِنْ شاعرٍ ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ: لمْ أعتدي!"

يتحدث الشاعر عن نفسه بوصفه كائنًا مبدعًا يلقي بكلماته وأفكاره، لكنه يُقصى ويُبعد عن المجتمع. استخدام فعل "زُجَّ" يشير إلى القوة التي استخدمت ضده، وكأن الشاعر قد عوقب على كلماته أو على وجوده الإبداعي. ومع ذلك، يعبر الشاعر عن براءته بصيحة "لم أعتدي!"، مؤكدًا أنه لم يرتكب ما يستحق العقاب. هنا تكمن معاناة الشاعر أمام نظام قمعي أو واقع اجتماعي غير متسامح مع الإبداع والاختلاف.

2.  المقطع الثاني:

"مِنْ طالبٍ شهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي: ما باليد!"

هذا المقطع يمثل طالبًا يتخرج من الدراسة لكنه يجد نفسه في مواجهة الحياة بلا قدرة أو أدوات لمواجهة التحديات. "الرصيف" هنا يمكن اعتباره رمزًا للحدود البسيطة أو الأفق الضيق الذي يقف أمامه الطالب المتخرج، حيث لا يمتلك القوة الفعلية لتحقيق أحلامه. "ما باليد!" تعبر عن الاعتراف بالعجز والضعف أمام القدر والمصير، وهو تكرار لشعور الضعف والإحباط الذي يواجهه الكثير من الشباب بعد انتهاء فترة التعليم.

3. المقطع الثالث:

"مِنْ مُدَّعٍ بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي: لا تقتدي!"

هنا يتناول الشاعر شخصية المدعي، الذي يبدو مظهره الخارجي بما يوحي بالتقوى والإيمان (بعمامة ولحية)، ولكن مضمون رسالته ومخابئ هيئته هو النفاق المنحط أو الادعاء الزائف. هنا ينصح الشاعر الآخرين بعدم الاقتداء بهذه الشخصية الدينية، لأنها لا تعكس الا انفصالًا بين المظهر والمضمون، وبين ما يُقال وما يُفعل.

هذا النقد الضمني قد يكون موجهًا إلى رجال الدين أو الأشخاص الذين يتظاهرون بالتقوى في حين أن أفعالهم لا تتفق مع مبادئهم.

4.  المقطع الرابع:

"مِنْ مُقْعَدٍ - رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ - هاكمْ يديْ!"

هذا المقطع يحمل معانٍ إنسانية عميقة، حيث يقدم الشاعر صورة لشخص مقعد، أي عاجز جسديًا، ولكن ما زالت روحه تحمل أحلامًا وطموحات للمستقبل. رغم عجزه الجسدي، فإنه يعرض يده (هاكم يدي) في إشارة إلى تقديم المساعدة أو التضامن.

تتجلى هنا الروح الإنسانية القوية التي تتحدى القيود الجسدية وتؤمن بالتضحية والمشاركة رغم كل الصعاب.

5. المقطع الخامس:

"مِنْ مُعْدَمٍ ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ: هاكُمْ غَدِي!"

يصف الشاعر حالة الإنسان المعدم الذي يعاني من الفقر والحرمان، بحيث لا ينام دون أن يشعر بالألم والتنهد. رغم ذلك، يعرض هذا المعدم الغد/ المستقبل على الآخرين، في تعبير عن الأمل والاستعداد لتقديم العون بما لديه للآخرين رغم فقره.

النص يعبر عن فكرة التضحية بالذات في سبيل المستقبل المشترك، حتى وإن كان الفرد يعاني من العوز او العجز الشخصي.

6. المقطع الأخير:

"ما شِئْتُ هذا والذي فَطَرَ النجومَ لِنَهْتَدي"

هذا المقطع يجمع بين السمو الروحي والاعتراف بالقوى الكونية الأكبر، حيث يعبر الشاعر عن استسلامه للقضاء والقدر، أو للقوة التي "فطرت النجوم". النجوم هنا ترمز إلى الهداية والأمل الذي يسعى الإنسان إلى اتباعه. هذا الختام يعكس فلسفة قناعة الشاعر بأن هناك قوة أكبر في هذا الكون توجه حياة الإنسان وتمنحه الإلهام والتوجيه.

المعاني العميقة

النص يعالج قضايا إنسانية شاملة مثل العزلة، الفقر، العجز، والبحث عن الذات. يتناول الشاعر كل مقطع كشخصية قائمة بذاتها، لكنه يربط بينها بخيط رفيع من التجارب المشتركة؛ الجميع يعاني، وكل شخص يتفاعل مع واقعه بأسلوبه الخاص. يمكننا ملاحظة أن النص يعبر عن صراعات داخلية عميقة:

الاغتراب والظلم:

1. يتجلى هذا في شخصية الشاعر في المقطع الأول، الذي يشعر بأنه مظلوم ومقصي رغم عدم ارتكابه خطأ.

2. العجز والإحباط: يتمثل في شخصية الطالب والمقعد، وكلاهما يعبران عن الرغبة في التقدم، لكن تعيقهما الظروف.

3. النفاق الاجتماعي:

يتجلى في شخصية المدعي، الذي يرمز إلى التناقض بين المظهر والمضمون في المجتمع.

4. الأمل والتضحية:

رغم المعاناة التي تعبر عنها الشخصيات، إلا أن هناك عنصرًا مشتركًا من الأمل والاستعداد للتضحية، سواء في يد المقعد الممدودة أو في الغد الذي يعرضه المعدم.

الإبداع الأدبي

يتجلى الإبداع في هذا النص من خلال:

1. البنية الشعرية الفريدة:

النص يتبع نمطًا حرًا من الشعر، حيث لا يلتزم بالقافية أو البحر الشعري التقليدي، مما يعطيه طابعًا حداثيًا ويتيح للشاعر التعبير عن أفكاره بحرية.

2. استخدام الرموز:

مثل "الرصيف" و"العمامة" و"النجوم"، التي تحمل معاني متعددة وتترك للقارئ حرية التأويل.

3. الجمع بين الشخصية الفردية والتجربة الإنسانية المشتركة:

الشخصيات في النص تمثل حالات فردية، لكن مشاعرهم وتجاربهم تعبر عن مشاعر إنسانية شاملة.

الخلاصة

هذا النص الشعري هو تعبير مؤثر عن صراعات الإنسان مع نفسه ومع المجتمع، وهو استكشاف عميق لمشاعر العجز والأمل والظلم والتمرد. باستخدام أسلوب مكثف ومجازي، يقدم الشاعر رؤية فلسفية للعالم تتراوح بين القسوة والجمال، وتجمع بين الاستسلام للقدر والإصرار على مواجهة التحديات. النص يلمس موضوعات تتعلق بالإنسانية في كل زمان ومكان، مما يجعله ذا طابع عالمي وإنساني بامتياز

***

طارق الحلفي/ شاعر وناقد

.................................

رابط النص

https://www.almothaqaf.org/nesos/977719

في المثقف اليوم