قراءات نقدية
نبيه القاسم: في رواية "عازفة البيكاديللي" لواسيني الأعرج
المكان هو الأساس وكلّ ما عَداه ظلال له
ما بين عبد الرحمن منيف وواسيني الأعرج
يُذكّرني واسيني الأعرج، بعد قراءتي لبعض رواياته، وخاصّة روايتيه "مَيْ، ليالي إيزيس كوبيا، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" (الدار الأهلية 2018) و "عازفة البيكاديللي" (دار الآداب2023) بعبد الرحمن منيف صاحبِ المشروع الروائي الضخم وخماسية "مدن الملح". عندما قال في حواره مع الروائية سلوى نعيمي إنّه "اختار في بداية طريقه العمل السياسي مؤمنا بالمؤسسة السياسية وقَناعاتها ومَقولاتها السياسيّة حتى اكتشف أنّ الواقعَ غيرُ ذلك وأنّه خُدع، فبدأ البحثَ عن أشكال جديدة لمُواجهة العالم ومحاولة تغييره، سواء أكان ذلك في العمل السياسي أو العمل الفنّي حتى وصل إلى اختيار الرواية لأنّها تستطيع مُلامسة القضايا الأساسيّة التي يحتاج الكثيرون إلى التّعرّف والتفاعلِ معها، لكي يرَوْا أنفسَهم وما حولهم بشكل أفضل، وربما أعمق ممّا تبدو للوهلة الأولى. (في حوار منيف مع الكاتبة سلوى النعيمي مجلة الكرمل 1983 وكتاب "الكاتب والمنفى" 1992 ص163)
ويقول واسيني الأعرج "لا نستطيع أنْ نركض بنفس القوّة في مَجالين. إمّا أنْ تأخذَ مَسارَ الرواية أو تأخذَ مَسار البحث الأكاديمي. ما يعتمل داخلي هو أقربُ إلى الحرية أو إلى جنون الرواية، لأنّ الرواية هي فعلٌ حُرٌّ بشكل مُطلق بينما العمل الأكاديمي هو عملٌ مُسَطَّرٌ مَنهجياً ثقافياً ولغوياً بحيث يصبحُ من الصّعب أنْ تجمع بين ما هو مُنضبطٌ أكاديمياً وبين ما هو حرٌّ إبداعياً. من هذا المُنطلق، كان عليّ الاختيارُ في لحظة من اللحظات وأنا اخترتُ الرواية. " (في حواره مع الكاتبة سلام ناصر الدين محرّرة مجلة "كل الأسرة" 8يونيو 2023).
* وواسيني الأعرج في روايته "عازفة البيكاديللي" يُتابع رصْدَ الأحداث والشخصيّات ليُسجّل تاريخها ويُعيدها للذاكرة الجماهيرية لما في ذلك من أهميّة لحفظ الذاكرة وتحفيزها لصيانة الأمّة وتاريخها. هكذا فعل في روايته عن مي زيادة وفي عازفة البيكاديللي وأخيرا مع "حيزية" العاشقة البدوية الجزائريّة التي أثارت قصّتُها ولا تزال خيال الشعراء.
رواية "عازفة البيكاديللي" تسير في خطّين مُتداخلَين.
* الخطّ الواقعي الذي فيه نُرافق ماسيني الصحفيّ الجزائري الذي يقوم بإعداد كتاب عن حرق مسرح البيكاديللي في بيروت يوم 19 آب 2000
* والخطّ التَّخييلي الذي فيه تروي لينا عازفة البيكاديللي قصة حياتها ونبوغها وحبّها ليونس الشاب المسلم رغم معارضة أهلهما. الذي اتفقت وإيّاه تحَدّيا للأهل والعادات على الاحتفال بفَضّ بكارتها، لكن يونس لم يحضر للقاء لموته في حادث طرق. وإنما كان ماسي الصحفي الجزائري الذي التقته صدفة مَن قام بفضّ بكارتها.
واسيني بنى خطَّه الدرامي على صدفة اللقاء بين ماسي ولينا والليلة الليلاء التي قضياها معا، واعتبر الشخصيتين محورَ النّصّ، حيث تقوم لينا بكتابة مذكراتها، بينما ماسي يُعدّ كتابه عن حريق البيكاديللي..
في قصته وبحثه عن مسرح البيكاديللي يصوّر ماسي المصاعبَ والعقبات التي صادفته في عمله. بينما في قصة لينا تُواجهُنا بمختلف القضايا الاجتماعية التي يعاني منها مجتمعنا العربي:
الزواجُ المختلط.
فضُّ بكارة الفتاة قبل الزواج.
تصرّفُ بعض رجال الدين الفاسدين المُرْتَشين.
عملُ الفتاة وخروجها من البيت وعلاقتها بالشباب.
النزاعات المَذهبية والدينية والفكرية.
الموقفُ من القضية الفلسطينية.
وبينما كان ماسي يكتب تاريخ بيروت ومسرح البيكاديللي. كانت لينا تمنح الحياة لكلّ مَن حولَها.
ماسي يحكي قصة بيروت والبيكاديللي والطريق الصّعب لتحقيق انجاز كتابه، ومعه نتعرف على سيرتا وبعض الناس الذين التقاهم، وعن حالة البيكاديللي وبيروت قبل وبعد الحريق والتّفجير.
لينا تتجه نحو العالم الافتراضي الخيالي بحياتها الفنية وسيرة حياتها، ومعها نلتقي بابنتها إيما وزوجها أنطوني وحبيبها يونس.
لينا تعيش في استرجاع أحداث ليلتها مع ماسي، وتكون لها اللازمة التي تُلاحقها في كل تحركاتها.
المكان والزّمان والإنسان ركيزة الرواية
حتى تتحقّقَ الحياة وينبني المجتمعُ ويَعْمُرَ الكونُ لا بدّ من تلاحم ثلاثةِ عناصرَ أساسيّةٍ هي: المكانُ والزَّمان والإنسان.
فإذا نقص أحدُها اختلّ التّلاحمُ وتعطّل المجتمعُ وتدَمَّر الكون.
لكنّ المكانَ يظلّ الأساسَ والعامودَ الفقري في هذا البناء، لأنّه الباقي الحيُّ ولو دُمِّر وأُزيلَت أثارُه، فيظلّ في الذاكرة خالدا، وفي المشاعر راسخا ينتقل مع الأبناء والأحفاد من جيل إلى جيل، يُثير الحنينَ ويبعثُ الشوقَ ويشحنُ العواطف.. بينما الزمنُ دائمُ التّغير، لا يثبتُ على حال، ومع تغيرّه يجلبُ الكوارثَ والمصائب، ويُبدّلُ حالَ الناس من حال إلى حال فتتقَطّعُ الأواصرُ، ونظلّ في خوف ممّا سيكون، كما ويُبعثرُ المكانَ، وقد يدمّرُه، وقد يؤدي إلى محو كلّ أثر له.. أمّا الإنسانُ فهو الأضعفُ في هذا البناء لأنه يكون أسيرَ المكان وعبدَ الزمان، فالمكانُ يُقيّدُه والزمانُ يتلاعبُ به ويرميه من حالة إلى أخرى. لكنه رغم ذلك فهو الذي يُعطي للمكان دِفأه وقيمتَه وقُدسيتَه وللزمان نكهتَه وشذاه، ويجعلُه المِشْجَبَ الذي يُعلِّقُ عليه آمالَه.
وكاتبُنا واسيني الأعرج أدرك قيمةَ هذه العناصر الثلاثة في تَشكيل وبناء روايته "عازفة البيكاديللي" وأبدع في الدَّور الذي رسمه لكلٍّ من هذه العناصر ِالثلاثة: المكان والزمان والإنسان.
ورغم أنَّ مسرحَ البيكاديللي، مَنْ دمّره الحريقُ الذي أُشْعِلَ فيه عام 2000 كان الدّافعَ لكتابة الرواية، وظلّ محورَ توالي الأحداث، ومركزَ الاهتمام، إلّا أنَّ الكاتب جعله يأتي في المرتبة الثانية من عنوان الرواية وسلَّط اهتمامَ القُرّاء والمُهتمين إلى الفتاة الجميلة التي تعزف على البيانو انطلاقا من إحساسه بأنّ هذه الفتاةَ الجميلةَ المُتفجّرةَ أنوثة وجَمالا هي مَنْ تشُدّ الناسَ وتجذبُهم وتأسرُهم وتأخذُ بهم لحَفْلِ إحياء مسرح البيكاديللي الذي أحرقته اليدُ الآثمة.
لمسرح البيكاديللي المكانةُ الخاصّة عند واسيني الأعرج سنوات كان يدرس في دمشق يوم شدّه إعلانٌ في جريدة عن عَرْض مسرحية "بترا" لفيروز على مسرح البيكاديللي في بيروت، وكيف خاطر يومها، وكانت الحربُ الأهليةُ مُستعرةً في لبنان وفي بيروت خاصّة، حيث سافر مع صديق فلسطيني وحضر العَرض، ويصف سحر مسرح البيكاديللي وجمالَه وأناقةَ الرجال وخاصّة النساء الجميلات وعطرَهن الأخّاذ. وقصّتَه مع الفتاة السّاحرة التي ظهرت له فجأة ففجّرت فيه كلَّ مشاعرِ الحبّ والمُغامرة، وأخذته إلى غرفة الفندق الذي يقيم فيه، وقضى معها ليلةَ عشق وحبّ وجنس لا تُنسى.
والبيكاديللي هو اسم مستوحى من أحد مسارح لندن الشهيرة، "بيكاديللي سكوير" وكان أول صرح فني ثقافي في شارع الحمراء، وأحد أهم المسارح البيروتية وأضخمها، وارتبط اسمه لاحقا بفيروز والأخَوَين الرحباني، الذين قَدَّموا أعمالَهم على خشبته.
وفي العام 2000 شبّ حريق داخله وأتى على معظم محتوياته النفيسة، ما أدّى لإغلاقه.
وبإغلاق هذا المكان، أُغلقَت جميع المقاهي الثقافية من حوله، والتي كانت تضم المثقفين العرب من كافة البلدان العربية، وذهابُه جعل كلَّ شيء يندثر من حوله، فالخساراتُ كبيرة في هذا السياق، وفقا للكاتب لواسيني الأعرج.
في روايته "عازفة البيكاديللي" أراد واسيني الأعرج الوصولَ إلى حقيقة الأسباب وهويّةِ الفاعلين الذين أقدَموا على إشعال النار في مسرح البيكاديللي. فهو لم يستوعبْ موتَه أبدا، لأنّ البيكاديللي رمزيّةُ بيروت التي تقوم في كلّ مرّة من رمادها كطائر الفينيق. (ص9).
ويشرح واسيني الأعرج سببَ اهتمامه بإحياء ذكرى مسرح البيكاديللي لأنّه كان يجمع كلّ القِوى المُتناحرة في الحرب الأهلية، جمع أناسا من اتجاهات مختلفة في زمن كانت فيه بيروت عاصمةً كوزموبوليتية وعربيةً وديمقراطيةً وحاضنةً جميلة. ويرى أنّ مَحْوَ معالمِ المكان تدميرٌ لذاكرةٍ لبنانية وعربيّة وإنسانيّة، ويقول مؤكّدا: أنا واحدٌ من جيلٍ لا يُريد لذلك العالم أنْ ينتهيَ، وعملي حفظُ الذاكرة من التّلف.
يروي واسيني كيف عاد ليفكر بمسرح البيكاديللي رغم أنّ عودتَه إلى بلده في الجزائر وانخراطَه في العمل الأكاديمي والإبداعي أنساه سنواتِ دراسته في دمشق وجمالَ بيروت ومقاهيها وسحرَ نسائها وشذى عطْرِهن. لكنّ إعادةَ ترميم قاعة "الماجستيك" التي أقيمت سنة 1930 في الجزائر، وكانت تتَّسع لعشرة آلاف شخص، فيها تُعرض الأفلامُ السينمائية والمسرحياتُ والعروضُ الفنيّة، وما رافق ترميمَها من ضجّة حول تغيير اسمِها لـ "أتلاس" شدّ انتباهَ واسيني وتابع الأخبار، وبدأ يبحث في تاريخ هذا المسرح، لكنّ أخبار احتراق مسرح البيكاديللي في بيروت يوم 19 آب 2000 وما كان له من صدى وتأثير في كل عواصم العالم العربي وحتى الغربي أثار في واسيني حنينَ الماضي، وعاد به إلى سنوات السبعين وتلك الفتاة السّاحرة التي كانت تعزف على البيانو، والتي، كما ردّدت الصحفُ، هي نفسها التي كانت تعزف وظلّت تعزف ليلة الاحتفال بإحياء ذكرى حريق البيكاديللي مساء 4.8.2020 رغم صوت الانفجارات التي دمّرت ميناءَ بيروت ومعظمَ البنايات في الأحياء القريبة منه. فاستصغر ما يُشغلُ الناس في بلده الجزائر حول تغيير اسم مسرح الماجستيك باسم أتلاس مُقارنة بما يُمثّله احتراقُ مسرح البيكاديللي في بيروت، وما يعنيه ذلك من تدمير وحَرقِ حضارةِ أمّة وتراثِها وحاضرِها. فشدّ الرحيلَ، وسافر إلى بيروت وبدأ عملية بَحْث سيزيفيّة ليكتبَ قصة البيكاديللي.
وهكذا يعود المكانُ مُمثَّلا بمسرح البيكاديللي ليحتلَ مركزَ الصّدارة وبؤرةَ الاهتمام عند ماسي الصّحفي الذي جاء ليكتبَ قصة البيكاديللي ويُعيدَه إلى ذاكرة الناس ومُحبي الفن والأدب والموسيقى والجمال. فيصف لنا مشاويرَ العذاب التي سارها مُتنقلا من مكان إلى آخر ليُلملم كلَّ خبر أو معلومة عن البيكاديللي، وكيف استعان بالعديد من الشخصيات رجالا ونساء، ووَظَّفَ كلَّ ذكائه ونشاطه ليَدخلَ المسرح، ودائما كان يُصَدُّ من قبل الحارس السّوداني حتى كانت الفرصةُ ونجح في دخول البيكاديللي وصوّرَ كلّ ما أراد تصويرَه ليكونَ شهادتَه ووثيقتَه في روايته لقصة مسرح البيكاديللي.
المكان والزمان هي أسس مهمة في الروايات فنرى أنّ واسيني منح المكانَ الحياة والروحَ، وجعل بيروت ومسرح البيكاديلي ليست مجرّد مكان من حجر وأسمنت، فمدينة بيروت بتاريخها وحضارتها وواقعها، ومسرح البيكاديللي الذي مثَّل حالةً ثقافية ومَعلَما مهما يُؤرِّخ لمرحلة في غاية الأهمية لبيروت ولبنان والعرب عامّة.
وكانت بيروت الجَرح الدّامي
ماسي الشخصية الرئيسة في الرواية وراويها، والذي عاد إلى بيروت من أجل كتابة كتابه عن البيكاديللي "بدت له بيروت غريبة، ليست تلك التي دخلها أول مرة بجنون عام 1978"، وهدّأته كلمات صديقته سيرتا “أنتَ عُدتَ تبحث عن بقاياك في بيروت التي لم تعد بيروت التي عرَفتَ، وعن مسرح البيكاديللي الذي يَدٌ جهنميّة مَحَته من الذاكرة” وهذا الكلام ينطبق على بيروت المدينة، فمَن يعرف بيروت في السابق ويراها الآن يشعر كم حجم الخراب الذي يسودها، وخاصة بعد تفجير الميناء وتحوّل حركة البواخر إلى مدينة حيفا ، وهذا ما تُؤكده سيرتا بقولها: “قبل أن يحرق كل شيء بضربة قاتلة لم تستهدف فقط المكان، ولكن البلاد بأسرها”.
ويقول ماسي: "من ساعة ما وصلت وأنا أدوّر في بيروت عن أمكنتنا القديمة، ما وجدت إلّا الفراغات القاسية، كل معالم بيروت انسحبت مُخَلِّفةً وراءها ظلالا باردة، وأمكنة لم تعُد معروفةً، أو تغيرت هويتُها"، ويتحدث عن الأمكنة التي تغيّرت في بيروت عبر تاريخها، وعبر الحرب الأهلية التي قسمَت بيروت على الهوية وأضاعت الكثيرَ من الأمكنة والمقاهي التي ضمَّت المثقفين والمُبدعين وغيرهم، ويتجلّى ذلك حين طلب افطارا لبنانيا فقالت سيرتا: "خَلّيني اسألهم إنْ بقي شيء لبناني في لبنان" وفي هذه العبارة لخَّص الكاتب مشكلةَ لبنان الذي عملت أطرافٌ كثيرة على تغيير ملامحه وشطب هويته وخاصة في بيروت، "بيروت النائمة على البارود، يمكن أنْ تصبح في ثانية واحدة مدينةً متوحشة تقتل بجنون، وببرودة مُحيِّرة، ويُمكنها أن تتحوَّل إلى حفنة رماد في لمح البَصر، لا شيء في هذه المدينة مضمون، ربما تلك أهم صفة فيها، وبيروت مدينة تنام في الفراغ، امرأة ميّتة، لا تنتظر إلّا الدَّفْن".
"بيروت تقسو أحيانا بلا رحمة على عشاقها، شيء ما في هذه المدينة يشبه الغرابة، ينتصر دوما، بيروت في حرب دائمة مع نفسها، أرض ينبت فيها كل شيء، الورد والشوك معا”، فهي بيروت التي تجاوزت تفجيرَ الميناء هذه الكارثة التي "كادت أن تمسح مدينةً بكاملها عن الخريطة"، وهي كما تقول سيرتا: "بيروت ليست مظلمة إلى هذا الحدّ"، ومع ذلك فهي "مدينة تمنحك كلَّ يوم مئات الأشكال من الموت المنتظر"، وتقول أيضا مستغربة من عشق ماسي لها: "لا أفهم بيروت! كلما ظننتُ أني فهمتها بعمق، وجدتني على الحافة أتسوَّل إجابة ممَّن عرفوا المدينة قبلي".
امّا وقد حسَم الكاتب واسيني الأعرج موقفَه من العلاقة التّرابطية المُتداخلة بين المكان والزمان والإنسان، وقدّم العنصرَ َالإنسانيّ على المكانيّ، مع ادراكة لقيمة المكان وتفوّقه، وجعل العنصرَ الزّماني مُراوحا بينهما، يرمي بسهامه فيُدمي ويُحزن ويُشتْتِتُ ويُدمّر، وأحيانا يُغري ويخدع ويوقع ويسحر، إلّا أنّه كان واضحا وصريحا في المَزْج الرائع ما بين التّخييلي والواقعي في سَرْده للأحداث ووصفه للشخصيّات وبنائه المُحْكَم للرواية ولغتِه المميّزة التي تنساب رقراقةً ناعمةً تأخذُ بعقل ومَشاعرِ القارئ، فإذا ما ملّ الوصفَ التّفصيليّ والمُكَرّر أحيانا، ولم يحتملْ سماعَ كلام بعض الشخصيّات في بعض المشاهد، ينتقلُ به ليستعيدَ ويعيشَ أحلى لحظات الحبِّ وهيَجانِ العاطفة وانتفاضة الجسد وسحرِ الكلمات وإيقاعِ الحروف وعَزْفِ الموسيقى في تلك الليلة الليلاء، فتدبُّ الحياةُ فيه ويُعلن مُعترفا أنّ على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة.
رواية "عازفة البيكاديللي" كما ذكرتُ سابقا، ارتكزت على ثنائيّة بطليها ماسي الصحفي الجزائري الذي اهتمّ بما حدث لمسرح البيكاديللي من حريق أدّى إلى إغلاقه فقرّر أنْ يكتب كتابا عنه، ولينا الفنانة التي كانت تعزف على البيانو في مسرح البيكاديللي منذ كانت في العاشرة من عمرها. رواية بُنيت على الحقيقي حيث تبدو كتابا سرديّا يُسجل تاريخ المسرح منذ بنائه وافتتاحه عام 1966 في شارع الحمراء في بيروت حتى إحراقه عام 1978، والتّخييلي منذ نتعرّف على لينا ساعة عزفت على البيانو وهي في العاشرة من عمرها، ونقرأ قصةَ حبّها لماسي، وتلك الليلة السّاحرة الصّاخبة التي قضَتها معه وهي في الثامنةِ عشرةَ من عمرها، ونُرافقُها حتى اللحظات الأخيرة من حياتها عام 2023، لينا التي ارتبطت حياتُها بالبيكاديللي وبمسارحَ بيروت.
شخصيات الرواية
اهتم واسيني الأعرج من الصفحات الأولى لروايته أن يذكر ويشكر كلّ الذين ساعدوه في جَمْع المعلومات والوثائق عن مسرح البيكاديلي، والذين سهّلوا له الطريقَ للوصول إليه ودخولِه. حتى الحارس السوداني الذي مَنَعه من التَّسلل للمسرح لم يغضب منه، بل على العكس جعلنا نتعاطفُ معه ونحزنُ عليه بعدما أُصيبَ بشظيّة أودت بحياته. كذلك مع شخصية أنطوني زوج لينا ووالد إيما رغم أنّه الذي كما تؤكّد لينا مَن أحرق مسرح البيكاديللي إلّا أنّها تُخفّفُ من اتّهامها بعَرْضها الأسبابَ التي دَعَته لذلك مثل قَتْل شقيقه بعد تعذيبه على يد أفراد من الميليشيا المُعادية، فقام وقتل أناسا لم يكن يعرفهم انتقاما لأخيه، وأنّه كان مُصابا بعَمى الأحقاد. يكره المسيحي الذي لا يُشبهه. يكره المسلم. يكره اليمين واليسار على حدّ سواء. يكره السوري، والفلسطيني، واللبناني السّني، والشيعي، والمسيحي. يكره العربَ الذين جعلوا من مدينة فينيقيّة اصطبلا لحروبهم وخلافاتهم، ومن حين لآخر كان يصرخ:
-اطلعوا برّا من أرضنا وتقاتلوا، اذبحوا أنفسكم، بس ابتعدوا عنّا. (ص254).
وفرح باحتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت والجنوب اللبناني وخاطب زوجته لينا:
-ما بفهَم. ليش أنتِ زَعْلانة. شو يا اللي مْزَعْلك حبيبتي؟ أنا ما قلت شيء إلّا صَّحْ. عدوّ عدوّنا صديقنا. اتركيهم يقتلوا بعض. نسيتِ أنّوا السوريين والفلسطينيين هم مَن قتلوا أهلي وعذّبوهم في البوريفاج؟ (ص258).
وأيضا غضبُه وحقدُه على زوجته لينا لأنها أحبّت رجلا قبلَه ووهبته عذريّتَها وأخفت عنه سرّها وتجاهلت سؤالَه لها مرتين:
- لمَنْ أعطيتِ عذريّتَك؟
وكان يترك البيت ويعود مع الفجر مخمورا في حالة يُرثى لها.
وغضبُه على الذين يأتون إلى البيكاديللي من الطبقة الغنيّة المُتعالية غير المُراعية لحالة الناس الفقراء والمُحتاجين، وكيف يجب عقابُهم بحرمانهم من هذا المكان الرائع، يقول للينا:
- اعترفي أنت وعصابة البيكاديللي لم تعودوا قادرين على الإقناع. الناس تموت تحت القصف الإسرائيلي وأنتم تغنون؟
وتتذكر لينا كيف في الليلة الأخيرة، ليلةِ حَرْق البيكاديللي، وكان زوجُها قد رافقها إلى المسرح، وبينما كانت هي في قمّة سعادتها والبيانو يرتفع ليستقرّ أمامها لتبدأ العزف، جلس زوجها أنطوني حزينا في الزاوية ينظر إليها، ثم وَسْط تصفيق الجمهور الحادّ لم تعُد تراه وتأكّدت أنَّه غادر المكان. وفي الليلة نفسها تمَّ إشعالُ النّار في البيكاديللي.
وكانت الشخصيّة المثالية التي اتفق عليها الجميع هي شخصية جوزيف ناصيف والد لينا، عازف البيانو الذي رافق كلّ عروض فيروز والرحبانية وكان عازف البيكاديللي المميّز، وقد أخذ بيد ابنته لينا لتحلّ مَحلّه فيما بعد. وانتهت حياتُه برصاصة قنّاص غادر.
الشخصيّات النسائية
كانت هي المُميّزة والمركزيّةَ في كلّ الأحداث التي جرت.
لينا: ابنة عازف البيانو جوزيف ناصيف ووريثته في العَزْف على مسرح البيكاديللي. بدأت عزفها وهي في العاشرة من عمرها وتألّقت في كل العروض التي شاركت فيها.
أحبت لينا شابا مسلما باسم يونس، وقد عارض والدُها هذا الزواج (ص221)، كذلك عارض أهل يونس. ولكنّ لينا ويونس أصرّا على الزواج واتّفقا على لقاء يحتفلان فيه بفُقدان العذرية تحدّيا للمجتمع وأهلهما، لكنَّ الذي حدث أنّ يونس لم يأت نتيجة لحادث طرق تعرّض له وأفقدَه حياتَه. وتحت تأثير الحَبّة التي أخذتها لينا ولانقطاع أملِها بمجيء يونس وغضبها عليه انتبهت لوجود شاب ساحر يُشبه يونس فشدّها إليه وشدّته إليها وكانت ليلةَ حُبٍّ وجنس دافئةً حميمةً في غرفة الشاب في الفندق.
وافترقت لينا عن الشاب الذي لم تعرف اسمَه، وغادرت الفندق ولم تعُد تراه، والشاب ترك لبنان وعاد إلى بلاده في الجزائر ونسي الفتاة الجميلةَ الساحرة. وظلّت ذكرى تلك الليلة الرائعة وفقدان العذرية تشدّ بلينا وتُراودها، وظلالُ الشاب وصوتُه الهامسُ السّاحرُ يرنُّ في أذنيها طوال السنوات حتى كانت والتقت به بعد أربعين سنة في نهاية القصة بعد حفل أمسية الاحتفاء بإحياء ذكرى حريق البيكاديللي.
إيما: هي ابنة لينا تعمل في الصحافة وتهتم بالكشف عن جريمة حرق البيكاديللي وتتعرّض بسبب ذلك للكثير من المضايقات حتى السجن. إيما أحبّت شابا مسلما اسمُه انكيدو وقرّرا الزواج المَدَني في قبرص. تشعر بالحزن والغضب والذهول عندما تُخبرها أمُّها لينا بقصّتها مع الشاب الذي التقته وقضت معه ليلة ليلاء وفقدتْ عذريتَها. وأن والدَها أنطوني هو الذي أحرق البيكاديللي.
سيرتا: فتاة جزائرية جاءت من باريس، عشقت موسيقيّا لبنانيّا، عازفَ كمان، من أم فرنسية وأب لبناني. بقيت معه عشر َسنوات ثم مات في الفاكهاني أيام الاجتياح الإسرائيلي. وتعرّفت على رجل آخر مات أيضا فقرّرت أنْ تعيش وحيدة. كانت على معرفة بلينا وعلى تواصل مع ماسي الصحفي الجزائري الذي حضر إلى بيروت ليكتبَ قصة البيكاديللي. كانت مرافقتَهُ خلال كلّ فترة وجوده في بيروت ومَنْ ساعدَتْه في لقائه بلينا
دلالات الأسماء
البيكاديللي اسمٌ مستوحى من أحد مسارح لندن الشهيرة "بيكاديللي سكوير" وكان أول صرح فني في شارح الحمراء. وأهميّتُه كمكان له رمزيته، إذ كان البيكاديللي مكانا يجمع كلّ القوى، ولم يُقصَف طوال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما.
أستلّ الكاتبُ أسماءَ أبطال روايته من التاريخ، أو من موروث البلاد، إن كانت المشرق أو المغرب العربي، ف”سيرتا”، صديقته الفيسبوكية، التي اخبرها بمَجيئه إلى بيروت ليُعدَ كتابَه عن حريق المسرح. كانت جزائرية مثله، وكانت صديقة لينا، وكان اسمُها سيرتا، أي قسنطينة المدينة التي تقع في الشرق الجزائري، وكانت عاصمة مملكة نوميديا التي جمَعَت ليبيا وتونس والجزائر، أمّا ماسي فهو تصغير اسم ماسينيسا، ملك ماسيسيل الشرق الذي هزَم سيفاكس ملك ماسيسيل الغرب ليوحدَ مملكةَ نوميديا، كذلك استل اسمَ انكيدو حبيبَ أيما ابنة لينا من ميثولوجيا العراق. أمّا أيما فهو اسم مُسْتَلّ من تراث المنطقة، وهو يُمكنه أنْ يُحيلَ إلى إيمان، أو إلى الغرب المسيحي “إيمي” الألماني تحديدا، الذي يعني المَحبوبة، وربما يُحيل إلى العبرية والذي يعني فيها ذات الشخصية القويّة. وقد كانت أيما ابنة لينا قوية ومحبوبة في الرواية.
اعتمد الكاتبُ في هذه الرواية لغةً سهلةً ومُتداوَلةً، تُعبِّر عن كَوْن بطلها ماسي يُعِدُّ كتابا صحفيا، وقد احتوت لغةُ الرواية على جمل ومصطلحات من اللهجة اللبنانية حيث كان يدور الحوارُ بين بعضِ الشخصيات، التي كانت بالطبع معظمُها لبنانيّة، باستثناء ماسي الجزائري، وحارس البيكاديللي السوداني أوّلا ومن ثم المصري تاليا.
ندَمُ واسيني على نهاية الرواية
يعترف واسيني الأعرج أنّه ندم على النهاية التي قرّرها لبطلي روايته ماسي ولينا وهي قتلهما تحت المطر، وكان عليه أنْ يجعل لقاءَهما في المشهد الأخير تحت المطر مُثيرا وسعيدا واستمرارا لقصة حبّهما ولقائهما قبل أكثر من أربعين عاما وهما في العشرينات من عمرهما.
ولكنّني أخالفه في ذلك، وأرى أنّ النهاية كانت موفّقة جدا، وتركت القارئ في حالة تعاطف مع ماسي ولينا وحُزْن بسبب النهاية التي كانت من نصيبهما بعد هذا الانقطاع الطويل من السنوات.
واسيني الأعرج الروائي الملتزم بقضايا شعبه
كما قال واسيني في حواره مح الكاتبة سلام ناصر الدين "إنّه اختار الرواية لأنها توفّر له الحريّة في تناول قضايا بلده وأمّته والعالم أجمع، ويستطيع بما يكتب أنْ يُنبِّه ويوقظ ويحرّك ويثير ويدفع للتغيير في فكر القارئ وتوجهاته ودَفْعه للرّفض والتمرّد والمُواجهة والعمل لتوعية الناس والعمل على بناء مجتمع أفضل تسوده الحريّة والديمقراطية والمساواة والأمان، ويتعايش بسعادة وتعاون ومَحبّة.
ويقول: "نعم نكتب لأننا نريد من الجرح أن يظل حياً ومفتوحاً...نكتب لأن الكائن الذي نحب تركَ العتبة وخرج ونحن لم نقل له بعد ما كنا نشتهي قوله.."
ويقول "قوّة الفن تتجاوز كلّ شيْ، والفن يُعطي طاقة للحياة، للاستمرار. وهذا ما دفعني للذهاب لرواية عازفة البيكاديللي". واعتبر تدمير البيكاديللي تدمير لبيروت لأنّها المدينة الثقافيّة التي تجمع كلّ المثقفين والمبدعين العرب. لهذا عملوا على شلّها ومحاولة تدميرها"، لكنه على ثقة "أنّ بيروت ستعود لأنّها ابنة الحياة. لا يُريدون أن تكون بيروت مدينة حرّة مستقلة، ففعلوا بها كما فعلوا ببغداد". و "مأساة البيكاديللي هي مأساة بيروت ومأساة أمّة، فكلّ ما كان حضاريّا في عالمنا العربي انتهى ولم يعُد موجودا. فهذا التّشقّق والانقسام في العالم العربي وكأنّه دُمّر ومُزّق كما البيكاديللي". ولهذا يؤمن بأنّ "الذاكرة تُساعدُنا على الإيمان أنّ البناء يمكن أن يتجدّد كما كان" لأنّ الإنسان هو مَنْ يصنع المعنى في مثل هذه الظروف القاسية ". ويُحذّر من هروب البعض من البلاد طلَبا للعيش الآمن بعيدا في المنافي والغربة بقوله " الهروب من البلاد إلى المنفي لم يحلّ المشكلة فلا مَهرب ممّا نعيشُه. فنحن أبناء هذا الزمن فإمّا أن نعيشَه أو نعيشَه كما قال مؤلف دون كيخوت.
وهذا يلتقي مع موقف إيما عندما طلبت من والدتها لينا أن تخرج ولا تَبقى معتكفة في البيت فقالت: "إلى أين أذهب، بيروت كلها خراب". فأجابتها إيما: لكن الناس مثلنا يُقاومون من أجل حياة خارج هذا الرماد".
وأخيرا
يضعنا واسيني الأعرج أمام أنفسنا كعرب لنتساءل، هل سيتكرّرُ حَرْقُ الثقافة مرّة أخرى؟ وهل سينتهي التّنوير في عالمنا العربي مرة أخرى؟
سؤال مهم مُثير علينا التفكيرُ به.
***
د. نبيه القاسم