قراءات نقدية

عبد السلام فاروق: المسرح التجريبي يقول: أكون أو لا أكون!

مهرجان المسرح التجريبي بدأ في مصر منذ عام 1988 وانتظم إجراؤه على مدار سنوات طويلة منعقداً كل عام جامعاً محاولات التجريب المسرحي من أطراف العالم..

ومع أحداث يناير2011 انفرط عقده ثم عاد على استحياء عام 2014 تحت عنوان: "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي" ثم لم يكتب له الاستمرار. ودار سجال وقتذاك حول مدي جدواه في ظل أزمة تتهدد المسرح بكل أنواعه واتجاهاته؛ فالمسرح القومي يواجه أزمة تمويل، والمسرح الخاص يبحث عن جمهور، ولم يستمر إلا نوع من المسرح الكوميدي المعتمد على الإفيهات المضحكة، ما يسمي farce، وهو لا يهدف لطرح قضايا بقدر ما يهدف للتسرية والسخرية والإضحاك الصرف، وحتى هذا النوع بات قاصراً على العروض المحدودة دون ارتباطه بمواسم مسرحية لم يعد لها وجود.

أما المسرح التجريبي فهو بطبيعته لا يخاطب عموم الجمهور، فرواده جميعهم إما نقاد أو مسرحيون أو مثقفون. لأنه في الأصل مسرح موجَّه نحو تطوير آليات مسرحية كالإضاءة والإخراج والسينوجرافيا وفنون الأداء. معني هذا أنه يستنزف أموالاً دون مردود وبدون جمهور. إنه أشبه بورشة عمل مكبرة تحاول البحث عن آليات تطوير مفاهيم المسرح وأدواته، لهذا يصبح وجوده مرهوناً بالرغبة في تطوير المسرح أو انعدامها..

جزء من كل

لو أن هناك أزمة في دعم وجود المسرح التجريبي، فلأنها في قلب أزمة أكبر في المسرح بصفة عامة، في تمويله وعائداته وانتظامه وقدرته على اجتذاب جمهور حقيقي.

لقد بدأ المسرح التجريبي، أو المسرح الطليعي طبقاً للمسمي القديم، في أواخر القرن التاسع عشر مع مسرحية "الملك أوبو" لألفريد جاري، والتي أعلن من خلالها رفضه لكل طرق المسرح الكلاسيكي السائدة في الكتابة والإخراج. ثم تتابعت نماذج ومحاولات التجريب في المسرح وكان من ثمارها حدوث تطور هائل في تقنيات المسرح وتكنيك أدائه.

لقد كان الهدف الأول للمسرح التجريبي عند ظهوره إحداث ثورة تطويرية تخرج به عن دائرة الإملال والتقليد والتكرار. غير أنه صار بالتدريج تياراً وحده ينضم لتيارات المسرح وأنواعه، مما تسبب في خروجه أحياناً عن قدرته على تحقيق أي هدف، وبالتالي قدرته على الصمود والاستمرار..

وقد ظل التجريب في المسرح سابقاً مقتصراً على أروقة المعاهد المسرحية والدرامية المتخصصة، قبل أن ينفتح على التجارب العالمية من خلال المهرجان القومي الدولي، والذي أتاح امتزاج التجارب وانصهارها معاً من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافه في تحسين آليات الدراما وأدواتها. وبرغم أن طبيعة المسرح التجريبي تحول دون قدرته على إنتاج فرق مسرحية ثابتة، لأن جمهوره من الخاصة، إلا أنه استطاع أن ينشئ فرقاً مسرحية كفرقة الخشبة المقدسة وفرقة البطل وفرقة أوبن مايند. فهل استطاعت تلك الفرق الصمود في وجه الأزمة المسرحية العامة في مصر والمنطقة؟ وهل ارتبطت أزمة المسرح القائمة بالأحداث والتوترات في المنطقة؟ ربما.

أهمية التجريب المسرحي

هناك عدة دراسات أكاديمية متخصصة استفاضت في الحديث عن أهمية التجريب في المسرح. كان من أقدمها وأهمها رسالة الدكتوراه للدكتور "سيد خاطر" والتي ركزت على ناحية الإخراج المسرحي ومفاهيم العرض المسرحي فيما يخص التجريب. ثم صدر كتاب للناقد "سيد إمام" بعنوان: (قراءة في الوعي الجمالي العربي) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ناقش فيه الكاتب جماليات المسرح التجريبي خلال عامي 88، 89. ثم قام الدكتور "أشرف زكي" بعمل دراسة ماجستير بعنوان: (دور المخرج في تأسيس حركة التجريب في المسرح المصري)، بحث من خلالها محاولات التجريب الأولية قبيل عام 88 الذي بدأت فيه الدولة تتبني تفاعلاً دولياً في التجريب المسرحي. ثم تتابعت الدراسات والمقالات المتخصصة حول موضوع التجريب الدرامي، ما يشير إلى تحول "المسرح التجريبي" إلى فرع من فروع المسرح المهمة.

ولفهم مدي أهمية التجريب المسرحي، يكفي أن ندرك أن محاولات "أنطونين أرتو" و"بيرانديللو" و"برتولت بريخت" هي نماذج من المحاولات الناجحة التي أسهمت في تغيير مفهوم الدراما تغييراً جذرياً وللأبد. تلك المحاولات التي رسخت لمفهوم إسقاط الحائط الرابع بين الجمهور والممثلين، وأرست دعائم أشكال جديدة من المسرح، لدرجة أن بعض هذه الأنواع ساهمت في تقليل تكلفة العروض المسرحية بدءاً من تصميمه المعماري البسيط، كمسرح الغرفة ومسرح العلبة، ومروراً بقلة تكاليف الديكورات والأثاث المسرحي طبقاً لمفاهيم المسرح الملحمي، وانتهاءً بتقليل الأجور المسرحية، من خلال الاستعانة بعدد أقل من الممثلين، حيث أمكن إيجاد نصوص مسرحية قوية مؤثرة ببطلين فقط، وعدد قليل من الأدوار الفرعية.

ثم هناك آثار أعمق للمسرح التجريبي على المستوى الفكري والأيدولوجي: بدأت أولاً بظهور ما سُمي بمسرح القسوة الذي أحدث أثراً مدوياً كشكل من أشكال الصدمة الثقافية ذات التأثير العميق. الغريب أن فكرة مسرح القسوة القديم، عاد للظهور متخفياً داخل عباءة تيار ما بعد الحداثة، التي استدعت القيم الشعبوية وحتى العبارات والحوارات المتدنية المنتسبة إلى الطبقات الاجتماعية الأدني. ومهما كان هذا النوع من الدراما صادماً لجمهور الكلاسيكيات، فإنه أحدث وقت ظهوره تأثيراً أدي في النهاية لتغيير مسار المسرح تغييراً هائلاً استمر حتى وقتنا هذا.

المسرحيون من المتخصصين سواء كانوا أكاديميين أو فنيين أو مخرجي دراما كلهم يدركون مدي أهمية التجريب المسرحي لتطوير تقنيات الدراما وفلسفاتها وأدواتها. لكنهم أيضاً يدركون مدي ارتباط حركة التجريب بالاقتصاد القومي من ناحية، وبالاقتصاد المسرحي على المستويين الحكومي والخاص. وهنا بالضبط تكمن إشكالية المسرح التجريبي، وربما المسرح بصفة عامة.

أمل التطوير الشامل

هناك دراسة مهمة عن التجريب الدرامي أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2014 تحت عنوان: "الاتجاهات التجريبية في المسرح المصري خلال الفترة من 1988 إلى 1999) وهي دراسة أكاديمية متخصصة للدكتور حسام عطا.

خلصت تلك الدراسة إلى عدد من النتائج كان منها: ارتباط المسرح بالاقتصاد كنتيجة لارتباط المدينة بالعقل الجمعي وبآليات السوق وأنماط الاستهلاك، وبنصيب الفرد في الحداثة. أي أن هناك علاقة تبادلية بين حركة المسرح وانتعاشه وبين الإنتاج القومي والنشاط الاقتصادي.

وعلى المستوي الفكري والأيديولوجي تؤكد الدراسة انتصار الحياة اليومية بمفرداتها على الجماليات التقليدية في الفنون المرئية سواء في العالم الغربي أو في مصر. ما يعني انتصار الشعبوية على الكلاسيكية، وأن هناك قفزة للطبقات الاجتماعية الأقل على حساب الصفوة، وأن هذه القفزة جاءت تحت تأثير العولمة، وأن هذا الانضغاط ضد النخبة القديمة أدي إلى التأثير على نوعية الجمهور المتلقي للفكر الدرامي. وإذا مددنا الخط على استقامته فسوف ندرك سبب تقلص أو انعدام جمهور المسرح التجريبي حتى على مستوي النخبة المتخصصة والجمهور المثقف.

استطردت الدراسة، التي أجدها عميقة، في عرض نتائجها التي ناهزت العشرين. وهي مهمة لكل باحث أو دارس لفن الدراما. وقد أوصي كاتبها بأهمية دعم مساحة حرية الإبداع، وبالتأكيد على أهمية الاتجاهات التجريبية لدعم المسرح، وأن يتم هذا برعاية قومية حكومية في الأساس من أجل إيجاد آلية لانتظام فعاليات المسرح التجريبي. وأن يتم إدماج المشروع التجريبي مع مشروعات عامة أخري تمس الصحة والتعليم لدعم مسرح المقهورين ومسرح الشارع من أجل جذب جمهور أكبر، تماشياً مع تيارات ما بعد الحداثة وتأثيرات العولمة التي أعادت جمهور الطبقات الاجتماعية الكادحة لصدارة المشهد.

إن تطوير المسرح التجريبي وانتظامه واستمراره رهن بعملية تطوير كبري تشمل المسرح بصفة عامة، وأملي أن تتضافر جهود القطاع الخاص والحكومي والأهلي لدعم تطوير المسرح أبو الفنون. ففي تطويره فرصة لازدهار جميع تياراته وأنواعه، ومنها المسرح التجريبي.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم