قراءات نقدية
زهير ياسين شليبه: عن رائعة الروائي محمد محمد السنباطي "عشيقة عرابي"
طريقة السرد
تتحقق في هذه الرواية أهم مقومة من مقومات النوع الروائي ألا وهي بيان الواقع الاجتماعي المعاش حيث نقرأ فيها عن تفصيلات حياة الإنسان المكافح المصري المعاصر بتقاليد روائية عربية بامتياز حيث تختلط هنا الأساليب العربية. لكن الحدوته المصرية الانسيابية في السرد لا تزال باقية في أصل المضمون والحبكة وهذا ما يميزها عن غيرها من النتاجات الروائية العربية.
نذكر على سبيل المثال لا الحصر "وعاد منصور من الأراضي البعيده" ص 98 أو "ومرت شهور .... ودخل تدريبات جديدة مستمرة، يعود حين يعود كأنما على ظهر سحابة شفافة من الهناء تتحرك به ويقبلني في جبيني وفي رأسي ثم يدلف الى النافذة الشرقية مصدر سعادته". ص 94
أو في قصة العرّاف السيد اللوائي إذ إن الكاتب يصور طريقة تفكير العرب عندما يقعون في مصيبة حيث كثيرا ما يلجأون إلى الغيبيات أو الميثولوجيا والسحر لدرجة أن القارىء يكاد يأخذ الموضوع على محمل الجد وأن هذا الساحر يعلم الغيب حقاً. ص 119-121
الراوي هنا أنثى، بنت شابة جميلة في الثانوية، "توحيده" تحاول أن تجسد شخصية عرابي البطولية على خشبة مسرح مدرستها وبمساعدة الشاب "جلال" الذي يتزوجها فيما بعد كما سنرى في الرواية.
فالراوية إذن هي محور أحداث الرواية ومركز تحرك شخصياتها بدءا من والدتها مرورا بزوجها جلال ووالده الحاج "بهجات" وعمّها وانتهاءاً بابنهما "منصور" وجيرانه.
ويأتي السرد في "عشيقة عرابي" على لسان بطلة الرواية "توحيده" في مواقف وهرونوتوبات متنوعة ومتشابكة بحيث يختلط الأمر في بعض الأماكن والمقاطع على القارىءغير المدقق.
حدث هذا بالذات في الانتقالات السردية السريعة أثناء تشابك الزمكانيات بدون تمهيد أو إشارة إلى ذلك بحيث يشعر القارىء بضرورة كتابة اسم الراوية عند بداية سردها بدلا من استخدام الضمير.
الشخصيات
يمزج الروائي محمد محمد السنباطي بمهارة التاريخ المصري الحديث بالواقع المعاصر من خلال مقارنات ومقاربات بين الشخصية البطولية عرابي والناس المصريين المشغولين بالهموم اليومية العادية.
كذلك تتداخل الهرونوتوبات التاريخية كما يقول "باختين" بنظيراتها المعاصره كما هو الحال في قصة عودة البطل المنفي عرابي من منفاه معززاً مكرما ورحيل عائلة الديب خلسة بدون توديع لهم او احتفاء أحد بهم على طريقة " روحه بلا رجعه.
لكن ماذا تريد هذه الرواية أن تقول لنا؟ هل تريد أن تطرح لنا فكرة الفروسة والرجولة التي تناولتها الرواية العربية عموما والمصرية بالذات منذ الثمانينات أم أنها رواية كشف الواقع؟.
وفي الحقيقة إنها رواية أرادت أن تكرس نفسها لكلا الموضوعتين بدون مانشيتات عريضة أو إسهاب أو تدفق لغوي سردي نابع من حماسة الكاتب لهما.
وهنا تتحقق مقومة تقليدية أصبحت من المقومات الكلاسيكية للنوع الروائي ألا وهي "بافَث" الكتابة، أو حماسة البطل كما يتجسد في قصص الصياد ومدرب الخيول الحاج "بهجات" عن زميله الراحل والد توحيده حيث تظهر فيه ملامح البطولة. نقرأ في الرواية على لسان الصياد الحاج بهجات محدثا بطلة القصة عن والدها الراحل:"ابوكي كان زي النسمة. كان عامل زي .. زي .. انتي عارفه لما حتلاقي الشمس عاوزه تعدي من الورقة. الورقة يبقى منظرها شفاف. رهيف....". ص20 وانظر ايضا ص 23، 24
ونفس الشيء يتكرر في سلوك بطلة الرواية "عشيقة عرابي" "توحيده" حيث تصرعلى ركوب الخيل وإدخال الفرس في المسرح وهي بالتأكيد أليغوريا تجسد ملامح الفروسة في الشخصية المصرية وأن عرابي لا يزال في روحها وعقلها وكيانها.
تصف الراوية مشاعرها عن تجسيدها لشخصية عرابي في المسرحية: "تلتهب الكف بالتصفيق التلقائي، ثم تنساب أحداث المسرحية لتفضي إلى المشهد المثير وكانت الطالبات متحفزات لرؤية الحصان يدخل وانا على ظهره، والقدم في الركاب، تطلعت إلى الخديوي المندهش وقلت له بصوت خشن: جئنا نعرض مطالب الأمة. ... وكان الشارب الملصوق تحت أنفي يقوي همتي". ص 17
ويمكن قول نفس الشيء عن تسليم جلال الأمانة "طعام" لصاحبها رغم تأخره وفساده، لكنه أصر على أداء الأمانة لمن ائتمنه كنوع من الأصالة والفروسة وكي لا يشعر بتأنيب الضمير والكَثارسيس "جلد الذات".
والحاج بهجات نفسه فيه من الفروسة وملامح النبل الإنسانية ما يكفي إلا أن الروائي لا يلون بالأسود والأبيض بل يعطي شخصياته مجالا رحبا من السلوك البشري السوي ولكن ليس بمعزل عن مختلف الغرائز والرغبات، وهنا تتجسد في حقيقة الأمر سمة البوليفونيا أو تعدد النغمات التي أشار اليها باختين في كتاباته النقدية عن الرواية.
من ذلك يمكن ملاحظة تطور شخصية جلال وتصرفاته المتغيرة حيث يسلك سلوكا حالماً وعاقلاً وحكيماً عند وفاة والده فيصر على إتمام مراسم عرس أخت زوجته ص 114، لكنه في نفس الوقت لم يُخفِ حادثة حرق بيتهم عن زوجته واضطرارها إلى العودة وعدم الاحتفال مع أمها بالفرح. لذا نسمعها تتسائل معاتبة "ألم يكن من الأجدر بجلال ألا يخبرني...". ص 115
فهل يمكن أن يكون الحاج بهجات شخصا رجوليا إن جاز لي التعبير هنا و"يصادر" في الوقت نفسه تنقيطة زواج ولده يوم عرسه ص 114 على مبدأ "الولد وما ملك لأبيه" ويجسد أيضا "نضج البطل الروائي أو رجولة البطل الروائي" في رواية الثمانينات المصرية.
الاختلاف بين "عشيقة عرابي" والروايات العربية السابقة المكرسة لنضج البطل الروائي أو رجولته يكمن هنا، في كونها ليست موضوعةً مقدسة وأن بطلها ليس شخصية أسطورية تتجسد فيه مواصفات القوة والذكورة المبالغ فيها أحياناً، بل واقعية تخطئ وتصيب.
وشخصيات هذه الرواية ليست مكرسة أو موظفة جميعها لموضوعتها بحيث يُسقط الكاتب أفكاره عليها ويصمم أدواراً لها، بل يحاول أن يعطيها كما أشرت سابقا فضاءً رحبا تتحرك فيه.
ونذكر هنا بعض الأمثلة: مزج أحداث ثورة عرابي بحرب أكتوبر و مقارنة ثوار عرابي بسارقي "الغسالة" بنك العائلة ص116، ولاحظ في الوقت نفسه مقارنة عرابي بجلال الذي يبيع ذهب زوجته منذ بداية زواجهما. ص 36
ومع ذلك فهو لا ينسى أن يقول لأخيه غير الشقيق زكريا: "أنا أحد أبطال أكتوبر يا شيخ زكريا" ص86 وهي مناسبة رائعة من الروائي ليذكر القارىء بزمان الرواية.
وكنت أتمنى على الكاتب أن يكون حواره أقرب بكثير الى المحكية و أن يبتعد قدر الإمكان عن المفردات غير المستخدمة في العامية مثل فقد وغيرها، وأنا أقول ذلك وأعلم علم اليقين بأن مسألة الحوار في النتاجات السردية العربية من أعقد المهمات على الكاتب، لكني مع ذلك أصر على أن الرواية يجب أن تتميز بلغة متعددة الأصوات والنغمات والدرجات وتتجسد فيها "لغة الساعات" على حد تعبير باختين.
تتميز لغة هذه الرواية الجميلة بقصر الجمل واقتضابها أو اقتصادها اللغوي لكنها أحياناً اخذت طابعا قد يكون صعبا للقارىء غير الدقيق بسبب الانتقالات السردية بدون تمهيد لغوي لاسيما وأن التصميم الفني الطباعي لبعض فقرات الرواية افتقر إلى الإشارة الى ذلك.
وهناك اختلاط سردي بين أكثر من موضوعة فبينما يتوقع القارىء أن الراوية ستحدثه عن خطبة منصور بعد عبارة "وعاد منصور من الأراضي البعيده ..." ص 98 لكنه يقرأ عن خطبة خالته الصيدلانية. ص99
أعتقد أن القارىء أصبح عملة صعبة ونادرة ومن الضروري أن يفكر الكاتب العربي به عندما يكتب نتاجه السردي الطويل وأنا لست مع الشروح والإسهاب لكن لا بدَ من أخذ هذا الموضوع على محمل الجد.
وقد يكون من المناسب هنا أن أشير إلى أهمية السخرية في العمل الفني وليس بالضرورة على طريقة رابليه او غوغول أو التركي نسين، ولكنها لا بدَ أن تعكس حياتنا الواقعية بكل مافيها من مآس ٍ وأحزان وأفراح ومزاح في الوقت نفسه وفي الحوارات.
وأذكر هنا مثالا على هذا المزاح أن أم ربيع تزور قبر زوجها فيسألها جلال "ووجدته في القبر أم على المقهى؟!" ص 127
أخيرا فلا يسعني إلا القول إن هذه الرواية إضافة جديده للنتاجات الروائية العربية وتجسيد لتطورها الحديث، استخدم فيها الكاتب الرائع محمد محمد السنباطي الحلم بطريقة رائعة ص 64 وصوّر فيها العلاقة الحميمية بين الناس المصريين مهما اختلفوا في انتماءاتهم الطبقية مثل علاقة المرأة الغنية المدام ناني بالإنسانة الفقيرة المصرية المكافحة بطلة الرواية وعائلة جلال حيث تقول لها " أنت مثل بنتي لقد أحببتك .." ص 67 وتصوير واقعي لحالة الفقر التي يعيشها المواطنون المكافحون أحفاد عرابي ص69 الذين يستحقون بالتأكيد حياةَ أفضل بكثير من تلك التي يعيشونها والمليئة بالمعاناة.
تقول بطلة الرواية عن مكان سكنهم الجديد: " ... هنا لكل عائلة من الثلاث حجرة أما أنا فلي حجرتان، بهذا أخبرني زوجي ليخفف عني لوعة الصدمة. بعد قليل سأعرف كل شيء عن هذا المكان. في الحجرة المجاورة رجل وامرأة لا يكفا عن الشجار والنقار وتبادل الشتائم الغليظة. ... في التي يليها امرأة مات زوجها، لم تعد تلبس الأسود تاركا لها حملا ثقيلا من الأولاد والبنات ولا مورد ظاهرا لها وإن كانت تشتري لهم كل مايريدون وأكثر! ... وضعوا نظاما لدخول المرحاض لكنهم غالبا ما يكسرون هذا النظام. يرقد المصرف الراكد أمام هذا المنزل يمتص مواسير المراحيض المدفونة القادمة من المنازل المطلة عليه. تعف شركات الذباب المتحدة على المنطقة حوله، وخلف المستنقعات يمكنك أن تلمح مساحة من الحقول المزروعة تبدو كثوب نظيف ساقط من الأوساخ.؟ ص 69
***
الدكتور زهير ياسين شليبه