قراءات نقدية
سعد الدغمان: دائرة الحطاب.. لا تواقيع للموت
(فَقَدَ الموت طرافته..
مذ صار خلوا من التواقيع)!!
استهلال مفزع جاء به الحطاب وصورة شعرية بمقاربة غير واقعية جسدها جواد ليقف والقارئ على مقربة من حقيقة شاخصة تتمثل بالموت، ورغم ما يحمله هذا القادم من شؤوم إلا أنه بحاجة فعلية للكثير من التواقيع ليتم تجسيده واقعا في الحياة، ومن غير تلك التواقيع تتغير المعادلة ويكون الموت جريمة وليس الحق المعتاد والمقسوم في الغيبيات على البشر دون راد لتلك القدرة التي يمثلها الموت، الذي إن وقع كان تجسيدا لحالة مفروضة. لكنها بلا تواقيع جريمة.
في الصباح ذاته..
في الساعة ذاتها..
يروح لساحة النصر
.. يجمع أطرافه التعويضية
ويؤدّي التحيّة – بإنفعال - للتمثال
منصتا، بشكل دؤوب
لخطاب جنراله المنتحر..
(.. يراقبه الشحاذون بإرتياب
ويفكّر صبّاغ الأحذية الصغير
: ما شكل الفردة الأخرى ؟!!
.. ولنفسه، يتمتمُ المسرحي:
يصلح – هذا الكاركتر- لتسلية الأطفال..)
صورة تعويضية بتوصيف دقيق، ذهب إليها الحطاب للإشارة إلى أولئك الذين شاركوا وعايشوا الموت ومشوا في دروبه وخبروا طرقاته، لكنهم نجو بتواقيع أخرجتهم من دائرة الحطاب الموصوفة بالموت بلا تواقيع، أفادتهم اصاباتهم وابتعادهم عن تلك الدائرة القاتمة الموحشة التي رسمها جواد لينبذ من خلالها (هيبة الموت) ويوزعه مجاناً بلا تواقيع، وهذه كارثة تنبه الحطاب وأفرد لها خطابا وجدانيا دون رتوش، والقصيدة إشارة ومغزى فهل تفهم من خلالها شفيرة الموت التي أرسلها جواد.
أطراف تعويضية أخرجته من دائرة الموت ولازال مصراً أن يتبع جنراله (المنتحر) وذلك توصيف بدلالة الفعل أراد منه الحطاب الإشارة إلى سلوك القطيع، فعلى الرغم من خروجه من تلك الدائرة المرعبة لازال يتقمص دوره السابق ليتبع، وتلك أيضا إشارة في اللاشعور، وقيل أن العقيدة بكل توصيفاتها هي لا شعور سواء كانت في (الدين، السلاح، العرق، الطائفة، المجتمع).
الصورة التي جاء بها الحطاب تعويضية أيضا مثل أطراف ذلك المقاتل التابع للجنرال المنتحر، وفي التعويض أيضا أكمل الحطاب مشهد الصورة الشعرية بحضور الجنرال على هيئة تمثال، لكنه في اللاشعور حاضر يقينا، هي عملية استدراج القارئ من خلال محاور الصورة التي تعددت عند جواد الحطاب وكانت لاتضيق على دائرته رغم أن المشهد الذي جاء به ليس بالجديد، لكنه أجزم أن يحمله مزيداً من التهويل في المماثلة والتوصيف فقربنا من خلاله إلى مشاهد نعرفها ولمسنا منها الكثير وعايشنا تجارب أصحابها فهي واقعية بالنسبة لنا، لذلك كان تناول الحطاب لها حقيقيا حين جسدها بواقعية رمزية دلالية.
2-
في الليلة ذاتها..
في الفراش ذاته..
يرزم أحلامه، تحت رأسه، بأكياس معتمة
وينام على الجرائد أسفل الجسر
..
يتذكّر بإنكسار
كيف أخفت حبيبته بين سوتيانها
وسامه الحربي، الذي لم يعجب تاجر الانتيكات.
وفي الثانية جاء الحطاب باللاجدوى كتأويل مقرون بالوصف لتبيان الخيبات المتراكمة التي يوصف بها القطيع لكنها مستترة في النص مقارنة بواقع مآل الأمور فلا الأوسمة تقبل ولا تقلبات الحياة مقبولة نظير ما قدموا (كيف أخفت حبيبته وسامه الحربي بين سوتيانها)، (وينام على الجرائد أسفل الجسر).
هناك في اللاشعور خيبات عدة ومفردات تعبر عن إنكسارات يغطيها المكنى بأحلام وصفها الحطاب بالمعتمة حين أخفاها بالأكياس وهي كناية عن عدم الأفصاح عن الحقيقة التي يعرفها صاحب الأطراف لكنه يخفيها بتأويل (تحت رأسه) لأنها أحلام.
ثم يأتي الحطاب بتأويل أخر يجسد الفقد في حياة ذو الأطراف فيقول (وينام على الجرائد أسفل الجسر)، أشارة لشريحة قدمت ثم عانت وبات أصحابها يعانقون الفشل والفقد والحرمان (مشردون)، واقعية مأساوية نقل خلالها الحطاب واقع مزري لكنها صرخة تدوي بصداها في أرجاء الإنسانية التي فقدت حياديتها وما عادت تجسد واقع مسماها، تصوير مدهش لواقع مرير، وتلك الميزة التي يوصف بها جواد الحطاب فهو يكتب بألم وتجسيد لمعاناة واقعية وليس بتوصيف خيالي أو تزويق يشوش على الصورة أو أن ينقلها بغير ما هي عليه.
الموت هو الحقيقة الوحيدة الشاخصة وبإصرار، وحين يكون بلا تواقيع يفقد هيبة طقوسه وقداسته الشكلية، ومنها ذهب الحطاب ليبني نصه المهول في دائرة اللاشعور وداخل السخرية فيه ليخفف من وطأة أو حدة فكرة الموت التي تعبر عن حقيقة متفردة في مشهد الحياة التي أن خلت ساعتها من التفاصيل سيفرغ الحدث من محتواه، وتكرس تفاصيله ماثلة بالأداء الذي لايخلوا من اجراءات وروتين وتواقيع كي يكون شاخصا ملموساً بما فيه من توجس.
كتب الحطاب نصه قاصدا اللاشعور ليعكس من خلاله الحقيقة التي يمثلها (الموت)، لكنه داخل الحقيقة بما يخفف وطأتها حين حول المشهد الجنائزي للموت ب(كاركتر) يضحك منه الأطفال.
لا أدري ربما يتذكر من يقرأ نص الحطاب هذا (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) التي جسد فيها ماركيز عزلة الجنرال وانتظاره، وهنا جاء الحطاب ليجسد انتظار البطل في النص خطاب جنراله المنتحر، والذي اعتاد الوقوف أمام تمثاله مؤديا التحية متخيلا استمرار خطاباته.
عناصر عدة عمل عليها الحطاب في نصه (تداخل، تشبيه، تأويل، تكرار الصورة، دقة التوصيف، المكان، الزمان، الشخوص، الصفات) وغيرها جسدها جواد الحطاب بدقة ليمنح القارئ صورة رائعة مقترنة بالتأويل الحسي واللفظي يوضح من خلالها أن اللاشعور يخلق أجواءً تضفي من الرمزية الكثير على حياة الأشخاص، وأن الحقيقة قد تتماثل أو تتغير إن لم تكن وفق نمط الاعتياد، أي أن خاصية التعود تأخذ بالإنسان ليكون من ضمن القطيع بتصرفه وذلك ما يعكسه سلوكه وتصرفه.
لذلك عمد الحطاب لتبيان أن الليل (العتمة) تنقل إيقاعات تختلف والتصور الحسي والمنطقي المعتاد عند الإنسان، لكنها الفكرة والتعود واللاشعور ما تجعل الأنماط تختلف.
قصيدة هائلة مهولة بنيت تفاصيلها بواقعية منطقية، نقل من خلالها جواد الحطاب التناقض مابين الواقع والحلم، والأصرار والاعتياد الذي يخلق حالة التعود وفق سلوك القطيع، لكنه فاجئنا كقراء أو دارسين للنصوص بفكرة تحول الموت (وهي حقيقة) إلى جريمة حين يخلوا من التواقيع.
3-
في البلدان، التي تشبه ساحاتها، ساحة نصره
ربما محاربون مثله،
جنرالات منتحرون مثل تمثاله
.....
يتسلّلون من دون موتوسيكلات حراسة
ومن الخراطيش الفارغة..
من أزقّة السبطانات
يتوالدون بذاتهم
ويندلقون، طبولا، نحو سنتر المدينة
فيمتلئ الليل بإيقاعات أطرافهم الخشبية
في هذا الزمن المتخلف عن الإنسان..
***
سعد الدغمان