قضايا

محمد السليطي: وعاظ السلاطين.. الدين حين يجند لحراسة الطغيان

المقدمة: في كل مرحلة من مراحل التاريخ، حين تواجه السلطة خطرًا على مشروعها أو شرعيتها، تجد في الدين ملاذًا جاهزًا لحمايتها، لا بوصفه منظومة أخلاقية أو وعظية، بل بوصفه جهازًا أيديولوجيًا قادراً على إنتاج الطاعة وتبرير القهر، عبر خطاب يتلبّس القداسة ويُغلِّف السياسة برداء الشرع. هنا، لا يقف رجال الدين في مقام النقد أو المواجهة، بل يتقدّم بعضهم الصفوف ليكونوا صوت الحاكم في محراب الله، و"وعّاظ السلاطين" الذين يُسهمون في شرعنة الطغيان، بل وتجميله باسم الدين.

تُطلّ هذه الظاهرة برأسها كلّما تمّ تحييد العقل النقدي، وتغليب فقه الطاعة على فقه العدل، وغالبًا ما تتكرّر في المجتمعات التي يُعاني فيها الدين من الاختطاف، إما على يد السلطان، أو على يد فقهاء جعلوا من أنفسهم حماةً للعرش أكثر من كونهم أمناء على الضمير الديني.

وإذا كانت عبارة "وعّاظ السلاطين" قد نالت شهرتها بفضل المفكر العراقي علي الوردي، فإن جوهرها أبعد من توصيف أخلاقي لفئة من رجال الدين، بل هي مفتاح لفهم علاقة ملتبسة بين السلطة والدين، حيث يتحوّل الدين من منظومة للتحرير إلى أداة للقمع، ومن خطاب للمستضعفين إلى خطاب لحماية المستبدين.

وما يعمّق خطورة هذه الظاهرة هو ما تمنحه من شرعية مزدوجة: شرعية دينية تكمّم الأفواه، وشرعية سياسية تبرّر البطش باسم المصلحة العامة أو وحدة الأمة.

في هذا المقال، نحاول تفكيك ظاهرة "وعاظ السلاطين" ليس بوصفها انحرافًا أخلاقيًا عابرًا، بل باعتبارها بنية متجذّرة في الفقه السياسي الإسلامي، تلبّست بلبوس النص، وتسربلت بتاريخ طويل من التواطؤ بين العمامة والعرش.

نحاول مساءلة هذه الظاهرة تاريخيًا، وفقهيًا، وسوسيولوجيًا، للوقوف على أسبابها، وأدواتها، وأثرها على العقل الديني، وكيف تكرّست في ذاكرة المسلمين، وما الذي يجعل نقدها ضرورة فكرية لا تقبل التأجيل.

الجذور التاريخية لظاهرة وعّاظ السلاطين

ظاهرة "وعّاظ السلاطين" ليست مجرد حالة طارئة أو انحراف فردي، بل هي ظاهرة معقدة ومتجذّرة في تاريخ الفكر السياسي والديني الإسلامي، حيث تتشابك السلطة الدينية والسياسية في علاقة جدلية أنتجت طبقة من الفقهاء والخطباء والمحدثين الذين وظّفوا الدين كأداة لتبرير استبداد الحاكم وتحويل طاعته إلى عبادة، وترويج سياساته باعتبارها "شرع الله".

هذا التشابك بين النص والسلطان، بين الشرع والسلطة، شكل الأساس الذي استُمدت منه قوة وعاظ السلاطين، الذين لم يكونوا مجرد واعظين، بل صُنّاع خطاب ديني سياسي يُشبع الحاجة السلطوية إلى مشروعية تبرر استبدادها.

1. الخلفية التكوينية: من النص إلى السلطان

بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، دخل المجتمع الإسلامي مرحلة فراغ سياسي وديني، إذ لم يحدد القرآن الكريم آلية واضحة لاختيار الحاكم، مما فتح المجال واسعًا للاجتهادات والتفسيرات المتباينة. هذا الفراغ استغله من تولى السلطة عبر "السقيفة"، التي كانت فعلًا سياسيًا صارمًا لبسط نفوذ قريش على الخلافة، مُلبسًا إياه ثوبًا دينيًا شرعيًا.

ولدت هنا "الرواية السياسية" التي تربط بين السلطة والدين، والتي تبنّاها فقهاء صعدوا مع الدولة الوليدة ليؤسّسوا لشرعية الحاكم، ليست مجرد قائد سياسي، بل "سلطان شرعي" لا يجوز الطعن فيه.

وهكذا بدأ الخطاب الديني يتحول من منبر للوعي الديني المجتمعي إلى آلية تحكّم وإخضاع، أداة لضبط الذهنيات وترويض الإرادات. فالفقهاء والخطباء أصبحوا أدوات لإنتاج شرعية السلطة، عبر اختيار نصوص دينية تُفسّر بما يرضي الحاكم، وتُهمش ما يُعارضه.

2. الدولة الأموية: تأصيل الطاعة وترويض الوعي

مع قيام الدولة الأموية، التي شكلت أول نظام حكم وراثي استبدادي في التاريخ الإسلامي، اشتدت الحاجة إلى خطاب ديني قادر على تبرير هذه السلطة المتوارثة، ومواجهة الأصوات المعارضة التي حملها الحسين بن علي وطلبة الزهد والورع مثل سعيد بن جبير والحسن البصري.

دعم الأمويون روّاة أحاديث مثل الإمام الزهري، الذين كان لهم دور فعال في صياغة "فقه الطاعة" الذي يحول الطاعة إلى أمر مطلق غير مشروط، كما في أحاديث: "من أهان السلطان أهانه الله"، "أطع الأمير وإن جلد ظهرك".

رغم ضعف سند هذه النصوص، إلا أنها استُخدمت بذكاء سياسي لإضفاء القداسة على الحاكم، وتحويل معارضة الاستبداد إلى معصية دينية. هنا، لم يعد الواعظ مجرد ناقل أخلاقيات الدين، بل صار هو المحرض على الطاعة العمياء، متخليًا عن دوره في نقد السلطة.

3. العباسيون: فقه الطاعة في ثوب الثقافة

في العصر العباسي، تطورت هذه الظاهرة إلى مؤسسة معقّدة، حينما تبلورت طبقة من العلماء مرتبطين مباشرة بالدولة، وأصبحوا موظفين في ديوان الخلافة، على غرار الإمام الشافعي الذي رسخ قاعدة أن "من غلب فهو الخليفة، تجب بيعته"، مما يعني أن القوة السياسية تحل محل الشرعية الأخلاقية.

في هذا السياق، دخل علم الكلام في دائرة الصراعات السياسية، وأصبحت الخلافات العقائدية منبرا للحكم على الولاء أو المعارضة، كما ظهر في "محنة خلق القرآن" أيام الخليفة المأمون، حيث فرض الخليفة رأيه، بينما قاوم الإمام أحمد بن حنبل بصلابة.

في هذه الحقبة، بدأت تتبلور نظرية "السلطان ظل الله في الأرض"، وهو تعبير عن القداسة السياسية التي تمنع مساءلة الحاكم أو نقض قراراته، فصار رفض الحاكم كفرًا مبررًا للقمع، وهذا الخطاب ظل مستمرًا متجددًا عبر القرون.

4. العصر المملوكي والعثماني: تثبيت الطغيان باسم الشرع

في هذه العصور، صارت الدولة الأوتوقراطية تتحكم مباشرة بالفقهاء، فبرزت طبقة من "علماء البلاط" الذين فقدوا استقلاليتهم، واحتكروا الفتاوى التي تخدم السلطان، حتى ولو خالفت العقل والأخلاق. فقد صدرت فتاوى مثل جواز قتل السلطان سليم الأول لأقاربه حفاظًا على "مصلحة الدولة الإسلامية".

كما دعم العلماء الجهاد العثماني ضد الصفويين، ليس بدافع حرية دينية، بل بدوافع سياسية بحتة، فجاء الفقه مجرد "جهاز أيديولوجي" يسهل على السلطان التحكم بالجماهير، ويكرّس ألوهية الحاكم، ويغلق باب النقاش والتمرد.

5. محطة الصفويين: تجربة مفصلية في السياق الشيعي

تشكل المرحلة الصفوية (1501–1736) نقطة تحول مركزية لفهم تطور ظاهرة "وعاظ السلاطين" ضمن السياق الشيعي. إذ تحوّل التشيع من تيار نخبة معارضة إلى مذهب دولة رسمي، مدعوم بفقهاء بلاط استوردتهم السلطة الصفوية من جبل عامل، ومن أبرزهم العلامة الكركي، الذي أعلن بوضوح تفويض الفقيه للسلطان قائلاً: "أنا نائب الإمام المهدي في ما فُوّض إلي من الأمور الشرعية، وما أراه فهو حكم الله".

هذا التفويض الذي قدّم الفقيه كمصدر سلطة دينية يمنح الحاكم شرعيته، شكّل أساس "المرجعية السلطانية"، التي تؤسس لولاية الحاكم كمرجعية دينية لا تحتمل المعارضة. وأدى ذلك إلى تبرير قمع المخالفين (السنة، الصوفية، الخ...) عبر فتاوى شرعية، وفرض ممارسات دينية مثل مجالس اللطم والتعزية العاشورائية كأدوات سياسية للحشد، مما حول الدين إلى جهاز تحكّم ومظلّة لاستبداد الدولة.

المرحلة الصفوية مهدّت الطريق لتكريس العلاقة بين المرجع والسلطان، وظهور فقه يبرر الدولة ولا يراقبها، وولادة مفاهيم مثل "ولاية الفقيه العامة" التي تطورت لاحقًا في إيران الخميني، ما يجعل من هذه التجربة نموذجًا معاصرًا من "وعاظ السلاطين" في إطار شيعي.

6. العصر الحديث: خطاب المؤسسة الرسمية

في العصر الحديث، مع ظهور الدول الحديثة، برزت الظاهرة في صور متعددة، منها رجال دين تحولوا إلى أدوات بيد الأنظمة الحاكمة، يبررون سياساتها ويغلفونها بفتاوى شرعية. ففي السعودية، على سبيل المثال، استُخدم خطاب بعض أعضاء هيئة كبار العلماء في تبرير سياسات الدولة، وتحريم المظاهرات، وتجريم النقد العلني للحاكم، تحت شعار "سد الذرائع" و"درء الفتنة". وفي مصر، خلال عهد الرئيسين جمال عبد الناصر ثم أنور السادات، وُظِّف الأزهر وقياداته في إضفاء غطاء ديني على توجهات النظام، سواء في تعبئة الجماهير ضد الخصوم السياسيين أو في شرعنة اتفاقيات سياسية مثيرة للجدل. وفي بعض دول الخليج، استخدمت السلطات المؤسسة الدينية الرسمية لتكريس مبدأ الطاعة المطلقة، ووصم أي معارضة بأنها خروج على الجماعة أو افتئات على الشرع. وفي بعض الأنظمة العسكرية المعاصرة، وُظّفت الجماعات الدينية الموالية للسلطة كأذرع أيديولوجية، استُخدمت المساجد ووسائل الإعلام فيها لتكريس الخضوع وقمع أي دعوة للإصلاح أو المقاومة.

هكذا، يصبح "الخطاب الديني الرسمي" أداة لترويض المجتمعات، وتجفيف منابع النقد، وإنتاج ثقافة دينية تماهت مع السلطة على حساب وظيفتها الأخلاقية والاجتماعية.

الخلاصة

ظاهرة "وعاظ السلاطين" ليست مجرد خلل أخلاقي فردي، بل تكوين ثقافي وفقهي بنيوي تراكم عبر القرون، يجعل من الدين أداة طيّعة في يد الحاكم، ومن الفقيه كاهنًا للبلاط. بدأت هذه الظاهرة منذ اللحظة التي استُخدم فيها الحديث والفقه لتثبيت سلطة لا أخلاقية، وستستمر طالما بقي الدين خاضعًا للسلطة السياسية، لا العكس.

فقه الطاعة وفقه الاستبداد: التحليل الفقهي والسياسي لشرعية الطاعة المطلقة

تُعد مسألة الطاعة للحاكم من المحاور الفقهية والسياسية الأكثر تعقيدًا وإثارة للجدل في التراث الإسلامي. إذ ينشأ من هذه المسألة تصوّرٌ مركزي حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحديد حدود شرعية السلطة وواجبات الرعية تجاهها. ومع أن القرآن والسنة يحثان على العدل والإنصاف، إلا أن فقه الطاعة تعرّض لتحوّلات جذرية أدت إلى تأسيس مواقف متعددة بين المُلزم بالطاعة الكاملة، والمُجيز للمقاومة أو المعارضة.

1. جذور فقه الطاعة: من الحتمية إلى الاجتهاد

في السياق الإسلامي الأول، كان الحاكم يتلقى الطاعة كجزء من النظام السياسي الجديد، مع استثناءات واضحة للظلم والجور. غير أن النصوص التي تُروّج للطاعة المطلقة، سواء على مستوى الحديث أو الفقه، أخذت طابعًا تأويليًا فاعلًا لدعم الاستبداد، وصُيغت في أزمنة واجتماعات سياسية لم تكن منسجمة مع روح الدين الجامعة للعدل.

تُستغلّ نصوص مثل: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، ولكنها تُختزل في صيغة "أطع الأمير وإن جلد ظهرك"، لتصبح أداة فصل بين معارضة الاستبداد، وقبول الطاعة تحت أي ظرف. هذا التناقض يشير إلى التحول من فقه تأملي يبحث عن العدل إلى فقه مُستخدم لإضفاء القداسة على الحاكم، بل وتحويل نقد السلطة إلى جريمة عقائدية.

2. تصورات فقهية متباينة: بين الطاعة المشروطة وغير المشروطة

ظهر في التراث فقهاء أصروا على وجوب طاعة الحاكم ما لم يأمر بمعصية صريحة، معتبرين الطاعة ضمانة للنظام والاستقرار، ومنهم الأئمة الأربعة، الذين رغم الاختلافات الفقهية بينهم اتفقوا على فكرة ضرورة الطاعة لمن بيده السلطان.

على الجانب الآخر، برزت أصوات أخرى ترفض الطاعة المطلقة، وتجيز مقاومة الظلم، وتؤكد حق الأمة في إزاحة الحاكم الظالم، ومنهم الحسن البصري، والزهراء بنت النبي، وأئمة المعارضة كالزيديين، الذين اعتبروا أن الشرعية الحقيقية هي لمن يحقق العدل لا لمن فرض نفسه بالقوة.

هذا التعدد يشير إلى أن "فقه الطاعة" ليس نصًا جامدًا، بل مجالًا مفتوحًا للنقاش والاجتهاد، لكنه للأسف غالبًا ما يُغلق لصالح القوى السياسية السائدة.

3. فقه الطاعة كأداة للهيمنة السياسية

استُثمر فقه الطاعة بشكل مكثف من قبل الأنظمة السياسية عبر التاريخ الإسلامي ليصبح جهازًا أيديولوجيًا يشرعن القهر والظلم، ويجعل من المعارضة جريمة دينية.

إن جعل الحاكم "ظل الله في الأرض"، أو "نائب الله"، يحوّل أي نقد أو رفض له إلى مساس بالقداسة، ويُرسّخ ثقافة الخضوع واللامساءلة. هذه الثقافة تؤثر في النفوس بشكل عميق، فتُولد حالة من الاستسلام النفسي والاجتماعي، تترافق مع قمع الإرادات الفردية والجماعية.

وبالتالي، فإن "وعاظ السلاطين" لا يقومون بدور ديني توجيهي، بل يصبحون جُزءًا من منظومة القمع، يغذونها بخطاب ديني مغلوط، يُبعد الناس عن الوعي النقدي والحرية.

4. من فقه الطاعة إلى فقه المعارضة: إمكانات التحرر

بالرغم من كل ما سبق، شهدت التاريخ الإسلامي أصواتًا نقدية فقهية، نادت بضرورة إعادة قراءة النصوص في ضوء مقاصد الشريعة، وضرورة حماية الأمة من الطغيان.

فلسفة الإسلام السياسي الحقيقي، كما عبر عنها الإمام علي في نهجه، ترتكز على أن الحاكم خادم للأمة لا سيدها، وأن الطاعة مشروطة بالعدل والحق، وأن من واجب الأمة التصدي للظلم. هذا التوجه هو المفتاح لإعادة بناء خطاب ديني يحرر الدين من أسر "وعاظ السلاطين"، ويعيد للدين دوره كضامن للحرية والكرامة الإنسانية.

الخلاصة

فقه الطاعة وفقه الاستبداد ليسا مجرد اختيارات فقهية جامدة، بل تعبيرات عن طبيعة العلاقة بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية في كل زمن ومكان. كلما تماهى الفقيه مع الحاكم، صار الدين أداة بيد الجلاد لا أداة تحرير للمظلومين. لذا، يظل التحدي الأكبر هو تحرير الفقه من أسر الخضوع، واستعادة روح المقاومة التي تضمن مجتمعًا يعبر عن طموحات العدل والكرامة والحرية.

صناعة الفقيه السلطاني: كيف يتكوّن واعظ السلاطين؟

ليس فقيهُ السلطانِ نتاجَ انحرافٍ شخصيٍّ فحسب، بل هو حصيلةُ بيئةٍ معرفيّةٍ وثقافيّةٍ ومؤسّساتيّةٍ تكرّسُ الطاعة وتُقمعُ فيها ملكاتُ النقد والاستقلال. إنّنا لا نواجهُ فردًا متملقًا بقدر ما نواجه بنيةً تولِّدُ التملّق، وتُكافئُ الخضوع، وتُعاقبُ الخروج عن الإجماع المُفترض. في هذا السياق، يصبح الفقيهُ السلطانيُّ ضرورةً وظيفيّةً لسلطةٍ تبحثُ عن شرعيّة دينيّة، ومآلاً طبيعيًّا لمؤسسةٍ دينيّةٍ تؤدلجُ الطاعةَ باسم النصوص، وتُعيد إنتاج خطاب الخضوع بوصفه دينًا.

الفقيه السلطاني لا يُخلق فجأة، ولا يهبط على السلطة من خارجها، بل يتكوّن تدريجيًا عبر سلسلة من التنازلات الصغيرة، تبدأ من الصمت عن انحراف، وتصل إلى تسويغ الجريمة. وفي كلّ مرحلة، يعيد تشكيل ضميره ليوافق هوى الحاكم، حتى يغدو صوته الداخلي صوتَ السلطان لا صوتَ الله أو النص. السيكولوجيا هنا تلعب دورًا محوريًّا: فالفقيه السلطاني قد يخدع نفسه بأنه يخدم الدين من داخل السلطة، وأنَّ قربه من الطغيان هو لحماية "المصلحة الإسلامية"، لكنه في العمق يفتك بضميره ليحفظ امتيازاته.

من منظور سوسيولوجي، يتغذّى هذا النموذج على سلطة التقليد، وتقديس العمامة، وغياب الرقابة المجتمعية. ففي المجتمعات التي لا تفصل بين الدين والرمز الديني، يُصنَّف أي نقدٍ لواعظ السلطان كطعن في الدين نفسه. وهكذا، تُعطى للحاكم شرعيةٌ مزدوجة: سلطة السياسة، وسلطة الدين، بينما يُجرَّد المجتمع من قدرته على المحاسبة أو المساءلة.

وتلعب مؤسسات التعليم الديني دورًا محوريًّا في إعادة إنتاج هذا النموذج. فالمناهج التي تُقصي الفلسفة، وتهمّش العقل، وتُقدّم الطاعة على النقد، تُنتج بالضرورة عقلاً تقليديًا هشًّا، جاهزًا لتبرير كل ما يُطلب منه. لا عجب إذًا أن تتحوّل الحوزات والجامعات الدينية في بعض السياقات إلى مزارع لإنتاج وعّاظ السلاطين، لا مختبرات للبحث والتجديد.

إن الفقيه السلطاني ليس شاذًا عن بيئته، بل هو نتاجها الأوفى، وصورتها الصارخة. وإنّ مواجهته لا تكون بشتمه أو سبه، بل بتفكيك البيئة التي صنعتْه، ونقد الثقافة التي صمتت عنه، وإعادة الاعتبار لدينٍ ينحازُ للإنسان، لا للحاكم.

مثقفو التبرير وفقهاء النفاق: حين يتحول الفكر إلى أداة تطبيع مع الطغيان

لا تقتصر المخاطر التي تهدد أي مجتمع على وجود سلطة قمعية أو مؤسسة دينية متحالفة معها، بل تتعداها إلى بروز فئة ثالثة أشد خطورة، تتمثل في أولئك الذين يُفترض بهم أن يكونوا ضمير المجتمع وعقله النقدي: المثقفون. حين يتخلى بعضهم عن دوره التنويري، يتحول إلى "مثقف تبرير" لا "مثقف تغيير"، يمارس نوعًا من التجميل الأيديولوجي لقبح الاستبداد، ويقدّم خطابًا يقوم بتطبيع القمع وتخدير الوعي الجماهيري، تحت شعارات مراوغة كـ "درء الفتنة"، أو "حفظ النظام"، أو "تقديم المصلحة العليا".

في هذا السياق، تتقاطع ممارسات مثقفي التبرير مع خطاب "فقهاء النفاق"، وهم أولئك الذين يتزيّنون بلباس الفقه والعلم الشرعي، لكنهم يختزلون الدين في طاعة السلطان، ويختزلون الفقه في فتاوى تُفصّل على مقاس الحاكم. لا يقفون عند حد الصمت عن الظلم، بل يتجاوزونه إلى شرعنته وتبريره، بل وتخوين من يعترض عليه أو يفضحه.

والأخطر من كل ذلك، هو أنّ هؤلاء يُسهمون في تعطيل أدوات النقد والمساءلة داخل المجتمع. فهم لا يكتفون بتجميد العقل الفقهي، بل يشيطنون كل وعي بديل، ويصنّفون الأصوات الحرة بأنها ضالّة، مأجورة، أو خائنة. يتحول الفقه والدين والفكر إلى منظومة مسوّغة للقمع لا مقاومة له.

سيكولوجيًا، تنبع هذه الظاهرة من آليات الدفاع الجمعي عن المنظومة القائمة، والخوف من الاضطراب، إذ يفضل العقل المستكين أن يجد مسوغات دينية وثقافية لوضعه المزري بدل مواجهته. أما سوسيولوجيًا، فهي تنبع من تكلّس البنى الاجتماعية وعجز النخب عن ممارسة الاستقلالية، إما بسبب الخوف، أو الطموح في الحصول على فتات السلطة، أو التماهي اللاواعي مع السائد.

هكذا، يصبح الدين حارسًا للسلطة، والمثقف ناطقًا باسم الاستبداد، والعقل الجمعي ضحية هذا التحالف. وتغدو معركة تحرير الإنسان العربي معركة معقدة لا تستهدف الطاغية وحده، بل تشمل أدواته من وعّاظ ومثقفين ومروّجي خطاب الطاعة والخضوع.

في النهاية، لا يُهزم الطغيان بغياب الطاغية وحده، بل بانهيار شبكة المبرّرين والمطبلين التي تحرسه بلسان الدين أو باسم الفكر. ففقهاء النفاق ومثقفو التبرير ليسوا ظلال الاستبداد فحسب، بل هم جزء من جذره العميق، ومن دون اجتثاثهم سيبقى القمع يجد لنفسه ألف مبرر وألف منبر.

الوجه النفسي لظاهرة وعّاظ السلاطين: الحاجة إلى الحماية بدل الحرية

لا يمكن فهم سلوك وعّاظ السلاطين دون الغوص في الجذور النفسية التي تفسّر انجذاب بعض رجال الدين إلى السلطة، أو خضوع الجماهير لتبريراتهم. في عمق هذه العلاقة، يبرز ما يمكن تسميته بـ"عقدة الحماية"، حيث تحل الحاجة إلى الأمان محل نزعة التحرر. فبدل أن تكون الحرية غاية، تصبح عبئًا يثير القلق، ليغدو الاستقرار – ولو على حساب الحقوق – هو المطلب الأسمى.

يُظهر الخطاب الوعظي السلطوي وجهًا أبويًا صارمًا، يعد بالطاعة مقابل الحماية، وبالاستقرار مقابل القبول بالأمر الواقع. هذا النموذج، الذي يشبه ما وصفه إريك فروم في كتابه الخوف من الحرية بـ"السلطوية الأبوية"، يجد صداه في نفسية الجماهير التي تعيش حالة "الرضا الطفولي" بالحماية، حتى ولو كان ثمنها التنازل عن الكرامة والحقوق. وفي هذا السياق، يتحوّل الدين إلى أداة لتهدئة القلق الجمعي عبر تقديم الطغيان كـ"أهون الشرين" وكمصدر وحيد للأمان.

التاريخ الإسلامي يقدم أمثلة واضحة على هذا النمط: فقد روّج بعض وعّاظ الدولة الأموية لفكرة أن طاعة الخليفة – مهما كان ظالمًا – خير من الانزلاق في "فتنة" تطيح بوحدة الأمة، وهو خطاب أعاد الظهور في العصر العباسي بصيغة "الأمن أو الفوضى". وفي العصر الحديث، لا يختلف المنطق كثيرًا حين يوظَّف خطاب "حماية الدولة" أو "درء الفتنة" لتبرير القمع، مع استحضار صور انهيار الدول الأخرى كأدلة تخويفية.

الواعظ السلطوي نفسه لا يرى في دفاعه عن السلطة مجرد حماية للحاكم، بل يجد فيه وسيلة لتسكين قلقه من الحرية المجهولة، تمامًا كما وصف حنّة آرندت في تحليلها لجذور الطغيان: فبعض الأفراد – بمن فيهم النخب الدينية – يشعرون بالارتياح في ظل السلطة المركزية القوية، لما توفره من إحساس باليقين والنظام. وهكذا، يُعاد تشكيل الوعي العام وفق ثنائيات قاتلة: الأمن أو الفوضى، الطاعة أو الهلاك، النظام أو الانهيار.

هذه العلاقة النفسية المركبة بين القمع والرضا به تخلق حلقة مغلقة: القمع ينتج وعظًا يبرره، والوعظ يولد استكانة، والاستكانة تزيد الحاجة إلى مزيد من القمع. ومن هنا، فإن نقد ظاهرة وعّاظ السلاطين ليس مجرد موقف سياسي أو أخلاقي، بل هو دعوة إلى تحرير الإنسان من هذه البنية النفسية التي تستبدل الحرية بالأمان، وإعادة الاعتبار للحرية كقيمة نفسية واجتماعية، لا كترفٍ فلسفي أو رفاهية نخبوية.

آثار الظاهرة على الدين والمجتمع

إنّ لظاهرة "وعّاظ السلاطين" آثارًا بالغة العمق والخطورة، لا تقتصر على الشأن الديني وحده، بل تمتد إلى بنية الوعي الجمعي، والسيكولوجيا المجتمعية، والشرعية السياسية، ناهيك عن أثرها على مشروع الإصلاح الديني ومكانة المؤسسة الدينية ذاتها. ويمكن إجمال أبرز هذه الآثار فيما يلي:

1. تحويل الدين إلى أداة تبرير أهم الأضرار الناتجة عن هذه الظاهرة هو تحويل الدين من رسالة تحرير روحي وأخلاقي إلى خطاب شرعنة للطغيان والظلم. لم يعد الدين في هذه الحالة قوة أخلاقية ناقدة، بل أصبح مؤسسة رمزية للحراسة، تُمنح منابرها لتمجيد الحاكم وتفسير قراراته وفق تأويلات انتقائية تُقصي البعد القيمي والأخلاقي للنصوص. وفي ذلك ينهار جوهر الدين بوصفه "كلمة الله في وجه الجائر"، كما يختزل النص في إرادة السلطة لا في مقاصد الحق والعدل.

2. إضعاف الثقة بالدين ورجاله حين يرى العامة أن المؤسسة الدينية تصطف دائمًا إلى جانب الحاكم، وتدافع عن تجاوزاته، وتبرر حروبه وفساده، يفقد رجل الدين مكانته بوصفه ضميرًا أخلاقيًا أو مرجعًا نزيهًا. تبدأ هنا موجة النفور والشك في صدقية الخطاب الديني، وهو ما يؤدي غالبًا إلى الانفصال التدريجي بين الجمهور والدين، ليس كعقيدة روحية بل كمؤسسة مجتمعية، وقد يقود ذلك في بعض البيئات إلى الإلحاد أو العدمية أو الارتياب الجذري من كل ما هو ديني.

3. إفشال مشاريع الإصلاح يسهم وعاظ السلاطين في إفشال أي نهوض إصلاحي حقيقي، إذ سرعان ما يتحالفون مع السلطة ضد أي صوت نقدي، ويصدرون الفتاوى التي تُحرم التظاهر، وتُجرم العصيان، وتُدين المطالبات الشعبية باسم "درء الفتنة" أو "وحدة الأمة"، مما يعيق الإصلاح السياسي والاجتماعي، ويخنق الأصوات الحرة التي تنشد التغيير السلمي. وهكذا تتحول المؤسسة الدينية، في كثير من التجارب، إلى جزء من منظومة القمع لا من حركية التحرر.

4. خلق وعي ديني زائف لا يقتصر الأثر على مستوى السياسة، بل يمتد إلى بنية التفكير الديني نفسها. يُعاد تشكيل العقل الديني بما يتلاءم مع بنية السلطة، حيث تُنتج فتاوى وفق معايير الولاء لا الاجتهاد، ويُعاد تفسير مفاهيم الطاعة، والشورى، والفتنة، والجهاد، بما يخدم نظام الحكم القائم. وبهذا، تتشكل نسخة زائفة من الدين، تُربى الأجيال عليها، وتُستنسخ في المنابر التعليمية والإعلامية، ليُعاد إنتاج الاستبداد عبر الدين لا ضده.

5. تثبيت السيكولوجيا الاستسلامية على المستوى النفسي، تساهم هذه الظاهرة في بناء شخصية جماعية مستسلمة، ترى في الحاكم ظلّ الله على الأرض، وفي الطاعة المطلقة فضيلة، وفي الاعتراض خروجًا عن الملة أو سفكًا للدماء. وهو ما يعزز شعور العجز، ويُميت روح المقاومة، ويُطبع الوعي على القبول بالعنف والطغيان كأقدار لا كاختيارات بشرية يمكن نقدها أو تغييرها.

6. التواطؤ مع العنف في بعض السياقات، لا يكتفي وعاظ السلاطين بالتبرير، بل يُضفون القداسة على ممارسات العنف السلطوي، فيُشرعن القمع تحت غطاء الدين، وتُمنح الحرب صفة "الفتح"، ويُصور المعارضون كـ"خوارج العصر"، في حين يُكافأ القاتل بوصفه "مجاهدًا"، ويُمنح المجرم غفرانًا فوريًا باسم المذهب أو الوطن أو الدفاع عن العقيدة.

باختصار، إنّ ظاهرة "وعاظ السلاطين" لا تفسد السياسة فحسب، بل تفسد الدين ذاته، وتُهدر قيمة الإنسان، وتُكرس بنية طاعة عمياء تعطل العقل وتُحاصر الضمير. وهي، في المحصلة، واحدة من أبرز أسباب تأخر المجتمعات الإسلامية وتكلس نظمها، وفشلها في بناء دولة عادلة وحديثة، تليق بقيم الدين وتطلعات الإنسان في آنٍ واحد.

خاتمة

ظاهرة وعّاظ السلاطين ليست انحرافًا طارئًا في علاقة الدين بالسلطة فحسب، بل هي تراكم تاريخي عميق تجسّد في منظومة فقهية وسياسية واجتماعية، حوّلت الدين من منارة للعدل والرحمة إلى أداة تبرير للطغيان. عبر العصور، نشأت طبقة من الفقهاء والوعاظ جنّدوا خطاب الدين لخدمة مصالح السلطان، محولين معاني الطاعة والولاء إلى قيد كاسر للحريات، ومبررين الاستبداد بزخارف شرعية مزيفة.

هذا الواقع لا يُهدد فقط بنية الوعي الديني، بل يهدر كرامة الإنسان ويشل قدرته على المطالبة بحقوقه، ويجهض آمال المجتمعات في العدالة والكرامة. فالخضوع الذي يتغنّى به وعّاظ السلاطين، هو في جوهره موت تدريجي للضمير الوطني والديني، وتحول إلى قطيع يسير خلف قادة لا يُحاسبون.

ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا في استعادة الدين من قبضة السلطان إلى نصرة المظلوم، في إحياء فقه المقاومة والعدل الذي رفع لواءه الحسين بن علي، وزيد بن علي، وابو حنيفة النعمان، والعز بن عبد السلام، وغيرهم ممن قاوموا الظلم ورفعوا صوت الحق. إن تحرير الدين من سلطة الطغيان هو الشرط الأساسي لبناء مجتمعات حرة وواعية ومسؤولة، قادرة على مواجهة تحديات العصر بضمير حي وعقل ناقد.

وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال الحارق: هل نريد دينًا يخنق أنفاسنا في زنزانة الطاعة العمياء، أم دينًا يحرر الروح ويحيي الأمل؟ قرارنا اليوم سيحدد مصيرنا غدًا.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

........................

المصادر والمراجع

1. إدوارد سعيد، المثقف والسلطة ، ترجمة د. محمد عناني، ط1 2006

2. ميشيل فوكو، المعرفة والسلطة، ترجمة عبد العزيز العيادي، ط1 1994

3. اريك فروم، الخوف من الحرية ، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، ط1 1972

4. برنار لويس، الدين والسياسة في الشرق الأوسط، ترجمة أشرف محمد كيلاني، ط1 2017

5. محمود محمد طه، الرسالة الثانية من الإسلام، ط3 1969

6. علي الوردي، وعاظ السلاطين ، ط1 1954

7. غوستاف لوبون، سيكولوجية الجماهير، ترجمة عادل زعيتر، طبعة دار هنداوي

8. صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، ط2 1970

9.  أبن خلدون، المقدمة، ط1 2004

10. محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمه عباس محمود، 1955 ط1

11. محمود محمد طه، الرسالة الثانية من الاسلام، ط3 1969

 

في المثقف اليوم