قضايا
جودت العاني: الوعي النقدي في المحاجة والنقد في خارج الثوابت..
أحياناً يصاب الانسان بالحيرة جراء رد الفعل الناجم عن سوء الفهم او حتى في موضوعة النقد وابداء الرأي . والنقد الموضوعي كما نعرفه حقيقة حضارية اكدها الفلاسفة الالمان في مقدمتهم " هيغل و هايدجر " وهما استخدما العقل النقدي الموضوعي في الحياة الثقافية حيث تشترط لغة التخاطب فيها (تفهم وجهات النظر، والإصغاء للطرف الآخر، وعدم المقاطعة في الحوار، وتجنب احتكار الرأي النقدي على أساس صورة الكمال، ورفض التعالي من باب ان النقد والناقد جناحان يتعاليان على الفكر والمفكرين والرأي والثقافة والمثقفين)، حتى ان الناس في المدينة الاغريقية الموغلة في القدم كانوا يتخاطبون بمنطق العقل ويتحاجون وفق منطق الاقناع، ومنطق الاقناع يسعف العقل النقدي في المحاجة العقلية القادرة على استقطاب الرأي الآخر.
والنقد العقلي، لا الإرتجالي، يعكس قيمة مهمة بين الاوساط التي تصغي وبين الذي يتحاور وبين الذي يمارس النقد .. والنقد من أجل النقد يعد قسرياً تهافتياً يخرج عن سياق المخاطبة العقلية، التي ترسم معنى للفكرة وتصحح مسارها او تضفي ما يغني جوهرها في محاجة برهانية موضوعية.. والغائية هنا تتمثل في إشاعة التخاطب في النشاط الاجتماعي الثقافي وتحويله الى ظاهرة ثقافية ليست نرجسية ذاتية قسرية تحتكم الى رد الفعل الانفعالي حين يقاطع هذا الرأي ويجاري ذاك .
إن النقد ووظيفته العليا التقويم والتقييم الموضوعيين اللذين يجعلان الناقد يعوف ذاته في خارج اطار الشخصنة، والاحتكام الى ثوابت النقد المتعارف عليها، وهي ثوابت ليست فردية ولا شخصانية ولا يسودها الاقحام الشخصي القسري للرأي ولا للانفعال، بل على العكس، الثابت في النقد يشترط الإقناع وتكريس المحاجة النافعة، وعدا ذلك يمسي هذا الاسلوب في النقد لآذعاً وهداماً وطارداً للإبداع الثقافي وبالتالي سلطوياً.
الفكر واطروحاته، عالم معقد بين الرؤى المتباينة والقضايا المتناقضة، والمحاجة في النقد الموضوعي تتيح للحياة الادبية والثقافية ان تحظى بمنظور اجتماعي يحقق رؤية اجتماعية عامة ذات منفعة تغني الفكر وتنعش الثقافة، وتستبعد احتكار الفكر واحتكار الثقافة، وبالتالي تشجيع الفكر المبدع لا كسر الابداع بقهرية النقد الانفعالي، وخاصة اسباغ صفة الناقد بصورة غير موضوعية لخلو المؤهلات والصفاة النقدية في إبداء الرأي والممارسة . فكيف يمكن تهذيب العقول بغية الارتقاء بمسؤولية الوعي النقدي الى المستوى الحضاري؟
الناقد يجمع بين الثقافة الواسعة والفكر العميق ويحيط بثوابت النقد وغائيته معرفية وليست غرضية أو نفعية أو تحريضية أو تهديمية، كما أنه ليس إحتكارياً في الرأي تزمتياً في إبداء النقد.. فكيف له أن يثبت العكس إذا لم يحتكم الى ثوابت الفكر وثوابت النقد الموضوعي سالفة الذكر؟
والناقد يتوجب ان يكون عليه رقيب يضبط مساره اذا ما خرج عن مسار النقد الموضوعي بإسباغ شخصنته، وإذا كان الناقد لديه وظيفة هي التقويم والتقييم وهو غير مؤهل لوظيفة النقد، فمن يضبط إيقاع الناقد الذي يمارس الإنتقائية الغرضية ؟
قال افلاطون (اذا كانت الفلسفة بنت العقل النظيف الحر، فإن الاستبداد يخنقها ويجهض ولادتها)، أما حيال منطق العقل النقدي نقول (إذا كان العقل النقدي يفتقر الى النضج فإن وظيفة الناقد تمسي قاصرة ومتهاوية والاحكام، التي تنضح عنها تكون احكاماً غير موضوعية وطارئة في عالم النقد وطاردة للإبداع .!!
***
د. جودت العاني
04 / مايس 2024