قضايا

حيد عبد السادة: الأمير والأمير الحديث

في عام 1513 وفي لحظة شديدة الاضطراب والتوتر، صدر كتاب (الأمير) لمؤلفه الإيطالي الشهير (نيكولو ميكافيلي)، وهو من أشهر الكتب السياسية المعمّرة، حيث لا زال يشكّل مرجعاً سياسياً وأساسياً مهماً لمعرفة اصول الدولة وآليات تشكلّها. وقد كان مليئاً بالجديد، لذلك يُعد ثورة في مجال الحكم والحاكم، حيث فصل ما بين الأخلاق والسياسية وانتقل من “ما يجب أن يكون” إلى “ما هو كائن”، رافضاً المعايير الأخلاقية في الحكم على الدولة، فلا وجود للغايات الأخلاقية في الدولة، لأن وجودها يمثل فضاءً أخلاقياً بحدِّ ذاته. فذهب إلى أن المعيار الحقيقي في الحكم على الحاكم لا يتمثل في كونه فاضلاً أو ورعاً، بل في قدرته على قراءة الواقع واستخدام القوة والدهاء والسيطرة على كافة المتغيرات وكبح جماح الطارئ.

من أجل ذلك، قال قولته الشهيرة “الغاية تبرر الوسيلة”. وأطلق كذلك سؤاله الشهير “هل الأفضل أن يُحب الأمير؟ أم يُخاف؟”. ويذهب إلى أن الأمير الذي يُخاف ويُهاب أكثر ضماناً في صيانة الدولة وديمومة نظامها. والغاية الأخلاقية من وجهة نظر (ميكافيلي) تتمثل في حفظ الدولة بمعزلٍ عن الآليات التي يتبعها الأمير، فحفظ الدولة غاية أخلاقية، وإنّ انهيارها شرٌ أعظم من استخدام القوة لحمايتها، لذلك فمن الممكن أن يضحّي الأمير بوعوده وصدقه إذا شاءت الظروف، وبهذا المنطق تصبح السياسة فنّاً استراتيجياً لا علاقة له بالقيم المطلقة ولا بفضائل الفلاسفة ولا بقيم الكنيسة.

وبالرغم من وجهات النظر النقدية التي واجهت كتاب (الأمير) باعتباره يشرعن لمعالم العنف ويفضل الاستبداد والتفرد على حساب المعايير الأخلاقية ويبرر الخداع والكذب ونكث العهود والمواثيق؛ إلا أنه ما زال يمثّل مرجعاً رئيساً في السياسة والفلسفة السياسية، كونه يعيد الفهم حول الكيفية التي تُدار بها السلطة، ويعمل على ايقاظ شعلة الخطابات لدى المتمرسين، فضلاً عن كونه مصدر إلهام لمن يودُّ صياغة القرارات الصعبة والصحيحة.

إلى أن وصل الأمر بمواطنه المعاصر (أنطونيو غرامشي)، حيث صدر له كتاباً بعنوان (الأمير الحديث)، نُشر باللغة الانجليزية عام 1957، ويتضمن مقتطفات من (دفاتر السجن) التي كتبها بين 1929-1935، ونشر في دار الطليعة عام 1970 بترجمة: زاهي شرفان وقيس الشامي.

والأمير الحديث، وإن كان ثورة في النظام السياسي والفلسفة السياسية، إلا أنه لا يُعدُّ ثورة على ما كتبه (ميكافيلي)، مع كونه انقلابا جذريا على (الأمير)، إلا أننا نفهم من (الأمير الحديث) عبارة عن إعادة انتاج لمعنى مضمر في كتابات (ميكافيلي)، فهو أشبه بطروحات (ماركس) على ما انتجه (هيغل). فجوهر ما أراده (غرامشي) في أميره الحديث، أن يعيد موضعة (الأمير) بجعله يقف على قدميه، بدلاً من الوقوف على رأسه.

 فالأمير الحديث ليس فرداً قائداً وحاكماً كما تصور (ميكافيلي)، بل هو حزب سياسي وجماعة منظمة تمتلك وعياً عالياً، تعمل على قيادة المجتمع نحو التحول التاريخي وتتخلى عن النخبوية في قبال ما يسمى بـ(المجتمع الجماهيري) وتعتمد على صياغة صراع طبقي يعتمد على التثقيف لا السيوف، وتعمل على انتقال القيادة من الفرد إلى التنظيم، وتسعى بالأخير إلى تقديم رؤية شاملة للسلطة بوصفها علاقة تكاملية بين الدولة والمجتمع المدني.

وبعكس (ميكافيلي) والذي بالغ في فصل الأخلاق عن السياسة، يعيد (غرامشي) ربط السياسة بالأخلاق، فالسياسة في رأي الأخير لا يمكن لها ان تنال نجاحاً بمعزل عن الأخلاق الجماعية، فمن شأن الأخيرة أن تُنتج ثقة الشعب بالحزب الحاكم، والأمير لا يكون أميراً بالقوة والحيلة والخداع، بل بالانضباط الأخلاقي والمسؤولية. مع ذلك، فإن مفهوم الثورة من وجهة نظر (غرامشي)، يعدّ الغاية الحقيقية لولادة الأمير الحديث، بينما يشكل مفهوم “الاستقرار” الغاية الرئيسة لحكومة الأمير.

ويناور (غرامشي) في مسألة تحقيق القبول وإنتاج الثقة، فإذا كانت القوة والخداع بمثابة البوابة الرئيسة في تحقيق الأمير لسيطرته، فإن القبول الاجتماعي والثقافي هو المبدأ الرئيس لسيادة الأمير الحديث، فالأمير ليس قائداً سلطوياً، بل مثقفٌ جمعيٌّ يعمل على تنظيم الإرادة الجماهيرية ويحقق رؤية مشتركة للمستقبل ويعمل على صناعة “كتلة تاريخية” تجمع الاقتصاد والثقافة والسياسة.

وبذلك يعيد (غرامشي) اعادة فهم وتركيب مفهوم “الهيمنة”، فهي عنده لا تمثّل فعلاً قمعياً، بل قوة معنوية يُعاد انتاجها بوساطة الثقافة والتعليم والإعلام، وهي تعني أن ينجح الحزب أو التنظيم في جعل رؤيته عن العالم مقبولة شعبياً، وان تصبح أفكارها موضعاً للتسليم والقبول.

وبالأخير، فإن الأمير الحديث عند (غرامشي) يعمل على اعادة بناء مفهوم القيادة السياسية، ليس على القوة والاخداع والإكراه، بل على الوعي والثقافة والتنظيم وصناعة الإجماع وتحويل الأفكار إلى قوة اجتماعية، وهذا ما يختزله الفيلسوف الإيطالي (انطونيو غرامشي) في نظام الحزب الشيوعي آنذاك.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم