قضايا
سجاد مصطفى حمود: الفوضى.. لحن اللامعقول

مقدمة: النظرة إلى الفوضى كما لو كانت مصدرًا للإبداع هي وجهة نظر قد تبدو مثيرة على سطحها، لكنها في الحقيقة تسعى لتجميل هزالٍ فكريٍ كبيرٍ في محاولة لتفسير الواقع المحير. بينما يحاول بعض المفكرين وضع الفوضى في سياقٍ يعكس أفقًا جديدًا للمعرفة، نلاحظ أن هذه التصورات تنبني على أسس غامضة وغير واضحة، تمامًا كما يفعل وعاظ السلاطين الذين يتحدثون عن الحقائق في قوالب مفخمة فارغة، ليستمروا في إيهامنا بأن الفوضى ليست سوى جسرًا نحو الإبداع والحرية الفكرية. هذه الأيديولوجية لا تطرح أي تساؤل حقيقي حول قدرتنا على تحديد هذه الفوضى من عدمها، بل تجعل منها ذريعة لتبرير التناقضات الفكرية السطحية.
التهويل الفلسفي: الفوضى كأداة لتحرير الفكر
يدّعي الكاتب أن الفوضى قد تكون أداة لتحرير الفكر، لكن هذا الادعاء يشوبه إغراق في التأويلات الفلسفية دون ربطها بواقع ملموس. يرى الكاتب أن الفوضى تفتح آفاقًا جديدة للمعرفة، لكن ماذا عن التساؤل الأساسي: هل الفوضى، من حيث هي، قادرة على توليد أي إبداع حقيقي؟ أم أنها مجرد غطاء للضياع الفكري؟ الفوضى، في الكثير من الحالات، ليست أكثر من تكرار للمشاعر المزعجة التي يصعب التوافق معها، ولا تساهم بأي حال في تحفيز الفهم العميق للمجتمع أو للوجود. النقد الحقيقي لا يأتي من التفكير في الفوضى كحالة مزاجية، بل من فهم الأطر المعرفية التي تُمكِّننا من تجاوز التشتت وتحقيق التماسك المعرفي. ولكن، كما في كثير من الأحيان مع وعاظ السلاطين، نرى أن الكاتب يقفز من مفهوم إلى آخر دون أن يتيح للقارئ فرصة التأمل أو التدقيق في أبعاد هذه الفوضى المزعومة.
فوضوية إبداعية أم عبث فكري؟
المقارنة بين الفوضى والإبداع في المقال تبدو سطحية، حيث يتم تصوير الفوضى وكأنها التربة الخصبة للإبداع. لكن هذا التصور لا يعكس الواقع بشكل حقيقي. الفوضى التي يتحدث عنها الكاتب ليست إلا نوعًا من العبث الفكري الذي لا يقدّم أي حلول جذرية أو تأثيرات على الثقافة أو الفكر المعاصر. المبدعون الذين استخدموا الفوضى في أعمالهم، مثل هيرمان هيسه أو سارتر، لم يتخذوا من الفوضى قيمة مطلقة، بل كانوا يدركون حدودها في سعيهم لإعادة النظر في المسلمات الاجتماعية. في حين أن الكاتب هنا يعمم ويدعو لتبني الفوضى كمنهج للإبداع دون أن يوضح كيف يمكن ترجمة هذه الفوضى إلى نتائج حقيقية.
الفلسفة والفوضى: هراء أم نقد حقيقي؟
في الفصل المخصص للفلسفة، يحاول الكاتب ربط الفوضى بنظريات فوكو وهايدغر وسارتر، لكن يبدو أنه يستخدم هذه الأسماء الكبيرة لتعزيز حجته دون أن يقدم فحصًا حقيقيًا للفكر الفلسفي وراء هذه النظريات. فوكو، على سبيل المثال، لا يتحدث عن الفوضى كأداة للخلق بقدر ما يتحدث عن العلاقة بين المعرفة والسلطة. بالمثل، هايدغر لا يُشجع على الفوضى الخلاقه، بل يركّز على الكائن بوصفه موجودًا في العالم. لم يقدم الكاتب هنا أي إشارة جادة إلى هذه السياقات الفلسفية العميقة، بل اقتصر على استخدام هذه الأسماء كأدوات لتمرير فكرة أيديولوجية غير متماسكة فكريًا.
الفوضى كمصطلح سطحي: فقدان المعنى والاتجاه
حين ينظر الكاتب إلى الفوضى على أنها حالة ضرورية للنقد الاجتماعي، فإنه يغفل عن حقيقة أن الفوضى ليست بالضرورة حلاً للتحديات المعرفية. الفوضى قد تكون، في واقع الأمر، نوعًا من الهروب من الإجابات الصعبة والتحديات الفكرية الحقيقية. بإغراق القارئ في مفاهيم غير محددة حول الفوضى، يعزز الكاتب نوعًا من الهروب الفكري الذي لا يساهم في فهم أعمق للواقع الاجتماعي والسياسي.
خاتمة والنتائج: إبداع بلا أساس
ما يقدمه الكاتب هو تأويل فلسفي قد يبدو مبتكرًا في ظاهره، لكنه في حقيقة الأمر إعادة تدوير لأفكار قديمة تحت قشرة جديدة. الفوضى التي يروج لها ليست في الحقيقة أكثر من نوع من العبث الفكري الذي لا يحقق أي غاية حقيقية سوى الاستمرار في تهويل الفضاء الفكري. كالعادة، مثل وعاظ السلاطين الذين يزينون الأفكار بالألفاظ الجذابة دون أن يعمقوا في جوهرها، يبقى الكاتب في دائرة من التفكير السطحي الذي لا يتجاوز الجمل الفضفاضة والشعارات الفكرية دون أن يقدم رؤية حقيقية للكيفية التي يمكن أن تتحقق بها الفوضى كأداة للإبداع.
***
الكاتب: سجاد مصطفى حمود
...................
المراجع:
1. فوكو، ميشيل. أركيولوجيا المعرفة. 1972.
2. سارتر، جان بول. الوجود والعدم. 1943.
3. هيسه، هيرمان. سارق اللؤلؤ. 1927.