قضايا
إبراهيم برسي: بيكاسو بين العبقرية والتسويق.. هل يُصنع الفنان أم يُولد عبقريًا؟

لطالما كان الفن محل جدل، بين كونه تعبيرًا فرديًا عن رؤية ذاتية وبين كونه صناعة تخضع لقوانين السوق والترويج.
بابلو بيكاسو، واحد من أكثر الفنانين تأثيرًا في القرن العشرين، يقف في قلب هذا الجدل. فهل كان بيكاسو عبقريًا أصيلًا، أم أنه كان “فنانًا مصنوعًا” في ظل نظام ثقافي واقتصادي ساهم في بروزه وتكريسه؟
هذا السؤال ليس مجرد تأمل في تاريخ الفن، بل هو نافذة على أسئلة أعمق تتعلق بطبيعة الإبداع، وصناعة الرموز الثقافية، والتلاعب بالسياق التاريخي لصالح توجهات معينة.
لفهم هذا السؤال بشكل أعمق، لا بد من التوقف عند السياق التاريخي والاجتماعي الذي برز فيه بيكاسو، وعلاقته بشبكات النفوذ الثقافية والاقتصادية، خاصة في باريس مطلع القرن العشرين، حيث لعبت مؤسسات فنية، وتجار لوحات، ونقاد، ودور نشر أدوارًا حاسمة في تحديد من يصبح “أسطورة فنية” ومن يظل في الظل. فالسؤال حول ما إذا كان بيكاسو مجرد عبقري بالفطرة أم أنه تم تصنيعه يرتبط بإشكالية فلسفية قديمة: هل يولد الإنسان عبقريًا، أم أن السياق الاجتماعي والاقتصادي هو الذي يشكل العبقرية؟
هذا السؤال يعيدنا إلى رؤى فلسفية مثل رؤية آرثر شوبنهاور، الذي كان يرى أن العبقرية الحقيقية نادرة، وأن معظم من يُطلق عليهم عباقرة هم في الحقيقة نتاج للظروف المحيطة بهم. بناءً على هذا التصور، يمكننا التساؤل: هل كان بيكاسو سيصل إلى مكانته العالمية لو لم يكن في باريس، ولو لم يحظَ برعاية نخبة الفن؟ أم أن السياق الذي وُضع فيه لعب دورًا حاسمًا في تشكيل صورته كرمز للحداثة الفنية؟
بالمقابل، نجد أن فريدريك نيتشه كان يحمل منظورًا مختلفًا، حيث اعتبر أن العبقرية ليست مجرد موهبة طبيعية، بل هي القدرة على تجاوز الأعراف والتقاليد وإعادة ابتكار الذات. وإذا نظرنا إلى بيكاسو من هذه الزاوية، نجد أنه لم يكتفِ باتباع مدارس فنية سائدة، بل كان جزءًا من موجة التجديد، حيث أسهم في تأسيس التكعيبية، مما جعله خارج نطاق التصنيع التقليدي للفنانين. ولكن في الوقت نفسه، يمكننا التساؤل: هل كان هناك فنانون آخرون يمتلكون ذات العبقرية، لكنهم لم يحظوا بفرصة الظهور؟
من الأمثلة التي يمكن طرحها خوان غريس، الفنان الإسباني الذي كان من رواد التكعيبية، لكنه لم ينل شهرة تضاهي شهرة بيكاسو، رغم أن أسلوبه كان أكثر تجريدًا وانضباطًا. كذلك أميديو موديلياني، الذي قدم أسلوبًا فريدًا في الرسم والنحت، لكنه مات شابًا قبل أن يحقق الشهرة الواسعة. فهل كان الفرق بين هؤلاء وبيكاسو هو الموهبة، أم أن بيكاسو كان ببساطة أكثر قدرة على فهم قواعد السوق الفني والترويج لنفسه؟
من هنا، يتضح أن نظام السوق الفني الحديث يقوم إلى حد كبير على الترويج والاحتكار الرمزي. فالفنان، لكي يصبح أيقونة، يحتاج إلى أن يكون جزءًا من شبكة من الرعاة، وصالات العرض، والنقاد، والمتاحف، الذين يكرّسون قيمته. ومن هنا تأتي الفكرة بأن بيكاسو لم يكن مجرد فنان موهوب، بل كان مشروعًا مدعومًا من قبل منظومة ثقافية قوية.
ففي سياق باريس بداية القرن العشرين، كان هناك صعود لمنظومة تجار الفن الحديث، مثل دانيال-هنري كانفايلر، الذي كان أحد أكبر الداعمين للتكعيبية، وكان له دور أساسي في نشر أعمال بيكاسو. أيضًا، هناك دور النقاد والمؤسسات الفنية التي كانت تبحث عن رموز جديدة لتمثيل الحداثة الفنية، مما جعل بيكاسو يحصل على دعم غير متاح لكثير من معاصريه. ومن هنا يمكن مقارنة بيكاسو بفنانين آخرين ربما امتلكوا مواهب مماثلة أو تفوقوا عليه، لكنهم لم ينالوا ذات الحظ من الرعاية والترويج.
فهل كان بيكاسو ليحظى بذات المكانة لو لم يكن في البيئة المناسبة؟ أو لو لم يحصل على دعم التجار والنقاد الذين رأوا فيه فرصة لإعادة تشكيل المشهد الفني؟
هذا السؤال يقودنا إلى جانب آخر من مسيرة بيكاسو، وهو تحوله المستمر بين الأساليب الفنية. فمن الواقعية في بداياته، إلى التكعيبية، إلى التجريب السريالي، وأخيرًا إلى فن أكثر تبسيطًا في أواخر حياته. فهل كانت هذه التحولات انعكاسًا لتطور إبداعي طبيعي، أم أنها كانت استجابة لحاجات السوق والنقاد؟
إذا طبقنا نظرية جان بودريار حول “تصنيع المعنى”، يمكننا القول إن بيكاسو لم يكن فقط فنانًا، بل كان جزءًا من منظومة إعادة إنتاج الرموز الثقافية. كل تحول في أسلوبه كان بمثابة إعادة صياغة لصورة الفنان الثوري، مما جعله يحافظ على حضوره في الذاكرة الجماعية كمبدع متجدد.
لكن لا يمكن تجاهل دور بيكاسو الشخصي في بناء أسطورته. لم يكن مجرد متلقٍ لدعم المؤسسات، بل كان أيضًا بارعًا في الترويج لنفسه، وفي خلق هالة حول فنه. كان قادرًا على جذب الانتباه، وعلى استغلال الأحداث الكبرى لصالحه، مثل انخراطه في القضايا السياسية (كما في لوحة غرنيكا التي أصبحت رمزًا لمناهضة الحرب). هذا يظهر أنه لم يكن مجرد منتج لصناعة الفن، بل كان لاعبًا ذكيًا داخلها، يفهم كيف يستخدم النظام لصالحه.
وبالعودة إلى السؤال الأساسي، لا يمكن إنكار أن بيكاسو كان فنانًا موهوبًا واستثنائيًا، لكنه أيضًا كان جزءًا من صناعة ثقافية ضخمة ساهمت في تكريس صورته كرمز للفن الحديث. ولكن هل يقلل ذلك من قيمته؟
ربما يكون الأهم من التساؤل حول ما إذا كان “صناعة” أم لا، هو فهم كيف يتم تشكيل الرموز الفنية في المجتمعات الحديثة، وكيف أن النجاح في الفن لا يرتبط فقط بالإبداع، بل أيضًا بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية التي تساهم في تشكيله.
لهذا، من الخطأ النظر إلى بيكاسو إما كعبقري خالص أو كمنتج تسويقي محض. هو كان الاثنين معًا: عبقري في فنه، وعبقري في فهم قواعد اللعبة الفنية. قد يكون هناك فنانون بموهبة مماثلة لم يحظوا بذات الشهرة، لكن بيكاسو لم يكن مجرد محظوظ، بل كان لاعبًا ذكيًا يعرف كيف يضع نفسه في المكان والزمان المناسبين، ويستفيد من كل تحول في السوق الفني لتعزيز أسطورته.
بهذا المعنى، يمكن القول إن بيكاسو لم يكن مجرد صنيعة للسوق، لكنه أيضًا لم يكن كيانًا منفصلًا عن المنظومة التي ساهمت في بروزه. بل كان لاعبًا بارعًا في لعبة الفن، استطاع أن يستخدم النظام لصالحه بقدر ما استخدمه النظام كرمز وواجهة لتحولات الفن في القرن العشرين.
والسؤال الأعمق الذي يبقى: هل هناك فنانون اليوم يعيشون القصة ذاتها، ولكن بأدوات جديدة؟
***
ابراهيم برسي