قضايا

مصطفى غلمان: الذات الشبكية وأخلاق العصر

"ثمة عبودية متفوقة على النمط الثقافي السائد، حيث تتقاطع ذاكرة قوة التأثير، إلى حدود تصبح فيها الفردية جزءا من الشكل المعبود، مثلما هو التغيير الذي اجترحته قوة الشبكة العنكبوتية في بنية المجتمع الاستهلاكي"

تصر شبكات التواصل الاجتماعي، المفتوحة على كل فرضيات الإنتاج، في علاقتها بالمحتوى وروابط الاختلاف البنيوي والديمغرافي، ونمو النزعات المادية والشخصية، على تعميق الفجوة الرقمية دون إرادة لتأمين الفرص أو استباق أخلاقي منظم للعلاقة، وبدون تدخل سياسي قادر على إحداث التوازن، محدثة بذلك ترسبا ثقيلا من جانب كونها فشلت بشكل خطير في إرباك مبدئية اللامساواة الاجتماعية، الشيء الذي عجل بشرخ تمييزي في قياس مفهومي "الشبكة" و"المعلومات".

هذا التصور السوسيولوجي لنسق التقاطع بين المجتمعين المذكورين، ضمن انفضاح صورة القوة الهرمية المأفونة والمدعمة بفعل واقع الفجوة إياها، يستبق أسئلة الأزمة المحدثة، في تلك اللامساراة المغلفة التي أقبرت ما يسمى بنظامية الأخلاق على المستوى التعليمي والاجتماعي والمادي.

هناك أبعاد انعكاسية متمنعة عن الفهم، خصوصا في ما يتصل بسرديات السوسيولوجيا الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن مجاورة الفجوة الرقمية للتكنولوجيا، قد تجعل من سؤال الأزمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية، التي تطالب بدارسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو النفسي والاجتماعي.. إلخ.

لا مراء أن المجتمع التكنولوجي الجديد أعاد تشكيل صورة الإعلام في دنيانا الراهنة، مع تحول قيمي في ترتيب أدوار الفاعلين (المؤثرين) الجدد، وعلاقتهم بالوسائط الرقمية المتسارعة، ودرجات قابلياتها داخل المجتمع نفسه، حيث أضحت الوسائط الاجتماعية المستخدمة بقوة الاعتياد والرغبة الجامحة والتنفيس السيكولوجي، جزءا من السلوك الصيروري، الذي يرهن الذات ويستقوي بها على حساب كل ما هو عام، مركزا على التأليبيات الاجتماعية والتحشيد لها، حتى تصير صورة دافعة لامتلاك وهم "المادة". وهي مواضعة مهمة في النقد الاجتماعي التكنولوجي، بل محطة مفصلية في مسار علم الاجتماع الذي يبحث عن طبائع التغير التكنولوجي، في حالة يتعذر فيها تفكيك مفاهيم التنوع الرقمي واشتباك مجتمع الوسائط وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية المتحولة.

ومن تداعيات هذه الأسئلة المجترحة، بروز تنظيرات سوسيوثقافية واعية بتضخم الذات الرقمية، وانكشافها على مساحة عظيمة من القبح الأخلاقي.

يكمن جوهر فعل النرجسية في الذات الرقمية، في انتظام ممارستها للفعل ككيان، متناغمة بذلك مع ما يسميه لين جيميسون ب"التفاعل الجسدي والعاطفي"، رأبا لكبت مستديم، واصطراعا لتغيير مرتقب، وإفلاتا من وازع الأخلاق أو الدين أو المجتمع.

هل نسوم أنفسنا هذا الإرهاق المبتذل والعبثي، من أجل الخروج من قوة قهرية باطنية، أو لأن قابليتنا للارتداد عن صحوة الوعي، لا تنفك تؤخر إيماننا بالأشياء الجديدة، أو الصادمة لما تكرسه أعباء الحياة ؟.

السؤال نفسه، يلتقي في اختصاره لكل هذا التأويلات، لظواهر عديدة سبق لعلم النفس التحليلي، أو التفاعلية الرمزية وعلم الظواهر، أن أبدى تأطيرا لمذهبياتها، في قدرتها على ابتداع المفهوم وتأصيله، أو التنظير لقيمته وتحوله التاريخي. كما لو أن بروز بنية "الذات الشبكية" أو "الفردية الشبكية" ضمن هذه الفجوة، هو نتيجة طبيعية لانبثاق أنترنيت منمط ومحشو بترتيب محكم ودقيق، تبرز فيه مدارة "تشكيل العلاقات" كنوع من التدبير المحكوم بأنساق السوق والتجارة والبيزنس؟.

هو كالكائن السايبورغي، ينبثق عن استيهامات آلية مسيرة بالتوابع التكنولوجية عالية الكفاءة، أو هي مزيج من واقع اجتماعي وسرديات أسطورية لا وجود لها. ينكمش في عز تراجع الإحساس بالحقيقة في الموتورات التفاعلية الجديدة، تختفي فيها عواطف القيم والأخلاق والتقاليد والأعراف، وكذا الحميميات الاجتماعية المنضبطة لإيقاع السلوك الإنساني ومنطقياته، في مقابل بروز طفرات الاستهلاك والتخمة والمحاكاة الجوفاء والتفاعل الشهواني والانسياق خلف تقاطعات الأهواء الشخصية وتخرصاتها.

***

د. مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

في المثقف اليوم