أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: كاتب من هذا الزمان

كما قيل عمّن شابهه من الكتاب والادباء، خاصة من جانب الشهرة والانتشار، هو كاتب ملأ الدنيا وشغل الناس، واقام علاقات أدبية وطيدة مع أبناء الأجيال الشابة والكاتبات الطالعات من النساء، تمثّلت في العشرات والمئات وربّما الآلاف من المقالات التي حفلت بها العشرات من الصحف، في زمن الصحف، وفي المواقع الإلكترونية في الزمن الراهن. كتب الكثير.. الكثير، ومع هذا وذاك لم يُصدر في حياته كتابًا واحدًا مكتفيًا بما يسّرته له مقالاته من محبة وتقدير مَن كتب عنهم ومَن تفاعل معهم.
شاكر فريد حسن من مواليد بلدة مصمص في المثلث، عام 1960 وتوفي فيها قبل عامين، عام 2022، عن عمر ناهز الستين عامًا فقط، تعرّفت عليه بداية عندما كان في العاشرة من عمره، وكان ذلك عندما كنت في زيارة لأخيه غير الشقيق، الكاتب والشاعر المترجم الراحل نواف عبد حسن، وتمّت هذه المعرفة بعد ان رفع صوته طالبا رؤيتي، والالتقاء بي، فصدّه مضيفي/ اخوه، طالبًا منه أن يغور مِن وجهه، ومتوجّهًا لي بقوله هذا أخي الصغير.. إنه يريد أن يكون كاتبًا. كلهم يريدون أن يكونوا كتابًا وشعراء، يقصد جميع أولاد تلك الفتر، أوائل السبعينيات، عندها طلبت منه أن يهدأ قليلًا وان يشجّع أخاه، قائلًا له يبدو أن الديك الفصيح من البيضة بيصيح، وأعتقد أن اخاك يطلب منك ان تشجّعه.. فلا تحبطه. عندما خرجت مُغادرًا بيت مُضيفي، رأيت أخاه الصغير شاكر، فلوّحت له بيدي مشجعًا ومحبذًا. بعدها التقيت به في العشرين.. وبعدها في الثلاثين من عمره، اما لقاءاتي التالية به فقد تمّت حينًا عبر هذه المادة الأدبية التي ينشرها في هذه الصحيفة أو تلك المجلة. في السنوات العشرين الأخيرة نشط شاكر فريد حسن مُصعّدًا في نشاطه المتّقد منذ بداياته الأولى، فراح يكتب المقال تلو المقال، وذكر أصدقاء مقربون منه، انه كان يكتب في اليوم الواحد ثلاثة او أربعة مقالات، اما الصحف الورقية فقد رحّبت به، خاصة صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، التي عمل مراسلا لها خلال فترة قصيرة من الزمن.
لم ينقطع شاكر فريد حسن عن الكتابة والنشر خلال ما يُعادل نصف عمره الأخير الا ليعاود هذا الفعل المحمود، وقد غطّت كتاباتُه قطاعات واسعة من الكتاب والكاتبات الطالعات، حتى انه بات بإمكانك أن تسأل عمّن لم يكتب عنه، بدلا من السؤال التقليدي وهو عمّن كتب، فقد كتب عن كلّ مَن أرسل إليه مجموعة شعرية او قصصية او حتى رواية. لم يُهمل أي هدية أدبية تلقاها واضعًا، كما ذكر في أحد مقالاته، نُصبَ عينيه أن يكتب عن كلّ كتاب تجشّم صاحبُه عناءَ إرسالهِ وإهدائه بالتالي إياه.
عليه، يُحسب له أنه قام بتشجيع العشرات، وربّما المئات عبر كتابته عنهم، والترويج لكتاباتهم، وقد لاقت كتاباتُه هذه الاستحسان لدى معظم مَن كتب عنهم، إذا لم يكن كلّهم، وتجلّى عرفان هؤلاء وشكرهم له، في عشرات ردود الفعل التي تلت رحيله المبكّر والمفاجئ للكثيرين، وبدا ضمن ردود الفعل هذه، التأثر والحزن الشديدان، لفقدانهم مُساندًا، داعما ومعاضدا من طراز مرغوب به ومُحبّب، بل إن عددًا مِن هؤلاء، قام بنعيه والتأريخ لحياته، وأعقب ذلك بما كتبه عنه من تقريظ وثناء.
غلبت على كتابات شاكر فريد حسن، عدة صفات منها: المقالة الصحفية المُحبّذة والمشجّعة، الكتابة المؤدلجة، والشكل غير الثابت للنوع الكتابي. فيما يتعلّق بالشكل غير الثابت، نقول إن كتابته تراوحت فيما بين المقالة القصيرة والطويلة بصورة نسبية، بل إنها لم تعدُ كونها تعليقًا مطولًا على مقالة تمّ نشرها في إحدى وسائل الاتصال الاجتماعي، ولعلّ هذا يقودنا إلى السرعة الشديدة في الكتابة، إذ يبدو منه أن صاحب تلك الكتابات كن يكتب بسرعة وكأنما هو في سباق مع الزمن، وللحقيقة لم تخلُ كتابات شاكر فريد حسن، بصورة عامو، من الأخطاء النحوية والصرفية التي كان بإمكان أيّ محرّر مسؤول تصويبها، وهو ما لم يفعله محررو المواقع الالكترونية، ربّما لأنهم كانوا يقرؤون المواد المقترحة للنشر بسرعة كبيرة، وربّما لأي سبب آخر يتعلّق بنظرتهم الى اللغة، او عدم معرفتهم، او سُرعتهم في النشر، شأنهم في ذلك شأن صاحب المادة المُرسلة، دون ان تتم مراجعتها جيدًا. أما فيما يتعلّق بالكتابة المؤدلجة فاننا نقول إن شاكر فريد حسن كان مُقرّبًا نَفسه إلى الفكر اليساري، لهذا رأيناه يستثني، عن قصدٍ أو غير قصد، معرفةٍ أو عدم معرفة، البعدَ الفنيّ لما يقوم بالكتابة عنه مِن نتاج أدبيّ، فهو يشير بهذا الصدد، إلى الكاتب وما يتّصف به مِن توجّه يساريّ أو وطنيّ، كما يشير إلى المضمون الكتابي، ولا يتطرّق إلى الجانب الفنّي إلا في القليل النادر، وهو ما جعلنا نقول أنه لم يكن يتطرّق إلى الجوانب الفنية فيما يقوم بالكتابة عنه. هل أثّر عاملُ السرعة في الكتابة والنشر في مثل هكذا توجّه؟ ربّما.. لكن لا اجزم. فيما يتعلّق بالمقالة الصحفية المُحبّذة والمشجّعةِ، المشجعةِ فقط، أعتقد أن كاتبّنا حذا بتوجّههِ هذا حذو الكُتّاب والباحثين الذين ظهروا في رُبع القرن الأخير، سواء في العالم العربي بصورة عامة، او في بلادنا بصورة خاصة، فقد دأب أولئك وهؤلاء، بصورة عامة، على الكتابة المُشجّعة والمُحبّذة، تلك الكتابة التي يُمكنُها أن تقبل رفع أسهم عطاء العمل المكتوب او المنقود، أو صاحبه للدقة، في حال رغبة مَن يكتب، وفي المقابل خفض هذه الأسهم إلى اسفل الدرجات في حال رغبة الكاتب، وبما أن مَن يكتبون في عالمنا العربي، وفي بلادنا خاصة، ومنهم كاتبنا شاكر فريد حسن، يريدون المُحافظة على العلاقات الشخصية فيما بينهم وبين مَن يكتبون عنهم، فقد رأينا هؤلاء يرفعون مِن أسهم أي عمل ادبي يقومون بالكتابة عنه، وأقول لمن لا يُقنعه هذا الكلام، راقب ما يُكتب ويقال، خاصة في امسياتنا الأدبية والثقافية عامة، وراقب مدى ما يرد فيها من مديح، ثناء وتقريظ مبالغ فيهما. شاكر فريد حسن بهذا، عرف ما هو المطلوب، فراح يُقدّمه للجميع على أطباق من ابتسامات وافراح.
ماذا يقول هذا، أعتقد أنه يقول، في أبسط ما يقوله، إننا نعيشُ فترةً خاصةً لها ملامحُها الغامضة وغير الواضحة، وإن وسائل الاتصال الاجتماعي، لعبت دورها في هذا الاتجاه، فاستبعدت الناقد، كما يرى الاكاديمي البريطاني رونان ماكدونلد في كتابه عن" موت الناقد"، وقرّبت اللايك والكومنت، وبين ذاك وذا، أفسحت المجال لكلام المُجاملات فيما بين الناس، كتابًا ومكتوبًا عنهم، وقد تمّ هذا كله في متاهة التطور الكمّي الذي نعيشه هذه الفترة، الذي اكاد اجزم انه سيمضي في فترة قد تطول وقد تقصر، سيولّي، وسوف يُعيد إلى الانسان وابداعاته الحقيقية وزنَهما الجدير بهما، قد يحدث هذا برفقة الذكاء الاصطناعي وربّما بدونه، ليتحوّل ما نشهده مِن تحوّل كمي إلى تطوّر كيفيّ، بالضبط كما حدث في كلّ تطور حقيقي وجدير.
لقد انصرف الكُتّاب في الفترة المُضبّبة-من ضباب، الجارية عن النقد الادبي، بمعناه العلمي السابق، ذلك النقد الذي يُقيّم العمل المنقود مُضيئًا إياه مِنَ الداخل، على اعتبار أن الناقد هو قارئ القارئ كما يقول الدكتور المُفكّر المبدع زكي نجيب محمود، في إحدى مقدماته لمجلة الفكر المعاصر، التي كان يرأس تحريرها وكانت تصدر في السبعينيات. نعم لقد انصرف هؤلاء عن هذا المفهوم الراقي والعميق للكتابة عامة والنقد خاصة، ومضوا في الطريق السهل، طريق المديح والثناء الذي يرغب به الجميع ويحبّونه، بالضبط مثلما يرغب الناس عامة والكتّاب خاصة. توضيحا ودلالاة على ما أقوله، أوجّه السؤال التالي: كم مِن القراء يقبلون على قراءة المقالات المدائحية المتلفّعة بضباب العلمية والمنهجية، وكم منهم يُقبلون على قراءة المقالات الجادة؟.. في رأيي واعتقادي أن عددَ قراء مَن ذكرتهم أولًا يفوق، بما لا ُيحدّد أو يُقاس من ذكرتهم فيما بعد من أصحاب الكتابات الجادة.
بالعودة إلى كاتبنا المرحوم شاكر فريد حسن، أقول باختصار شديد، إنه أفاد ادبنا، في المدى القريب، وذلك بتشجيعه مَن يحتاج إلى التشجيع والاشادة، أما فيما يتعلّق بالمستقبل فلنترك الزمن يقول كلمته، وقد أوحيت بها في السطور السابقة، ويُمكننا حاليًا ونحن نستذكر كاتبًا كان له كبير الأثر في حياتنا الادبية والثقافية، أن نكتفي بالنظر إلى النصف المليء من الكوب.. أقصد التشجيع والتحبيذ.
***
ناجي ظاهر