قراءات نقدية
عبد الهادي عبد المطلب: قراءة في رواية «سراديب النهايات» للدكتور عبد الإله بلقزيز
النهايات، بدايات لمتخيل جديد ينسجه القارئ
«كأن النّهايات ترمينا على شواطئ البدايات» (خالد حسين(1)
مفتتح..
ما الذي يتبقى حين ينهار العالم؟
هل نهاية الرواية تعني الانتهاء والتّمام، وأنّ السّارد أفرغ ما في جعبته ليركن إلى الصمت؟ وهل انتهى الكلام حين أعلن السّارد عن نهاية الحكي بعد أن أخذ قارئه في متاهات سردية، فانقطع ما كان بينهما إلى الأبد، أم سلّمه مفاتيح النهاية ليصوغ روايته على أساسها؟
تنتهي الرواية، أي رواية، وهي تحمل داخلها إرهاصاتٍ لبدايات جديدة، فالنّهاية آخر ما يبقى عالقا في ذهن القارئ المُبدع والمتخيِّل والمنتِج، حين يعيد إنتاج نصّه في تناصّ إبداعي مع الأصل وانطلاقا منه، مؤسِّساً بذلك مساراً جديدا بشخوص وفضاءات وأحداث وأزمنة جديدة يبني بها معماراً لنصٍّ آخر تشَكّل، حين القراءة الذّكية، في ذهنه النّشط.
فالنّهاية توقِف القارئ للتّأمّل، وتصوّر الجهد الذي تكبّده الكاتب وهو يبني روايته على أساسٍ من الإبداع والتّخيّل، يُنهيه بكثيرٍ من التّركيز والتّكثيف، رغم سرعة الانحدار إلى مآلها الأخير، وجمع شتات الحكي، ومنح النص حيوية وتأويلا منفتحا على المشاركة في بناء المعنى، فهي القفلة التي تترك أثرها في القارئ، تُكسّر توقعاته وتبني أفق انتظاراته، مانحة إياه دهشة وتأمُّلاً يحقّق استمرارية النص.
«سراديب النهايات(2)»، رواية الكاتب والمفكر المغربي الدكتور عبد الإله بلقزيز، عنوانٌ يخلق لدى القارئ توتُّراً وحافزاً يدفعه للاكتشاف والانخراط في مجريات الأحداث، وكل توتُّر لابد أن يُنتج السؤال والإبداع، فالسراديب، وهي جمعُ سرداب، وهو «الخباء تحت الأرض»(3)، وهو القبو والنّفق والمقبرة والمدفن، وهو المكان الضيق، وكل سردابٍ ظلامٌ وضيقٌ وسجنٌ، بل أكثر من ذلك، هو نهاية في حدّ ذاته، لكن الكاتب أراد لنهايات شخوصه أن تكون، كما في واقع النّاس المهمّشين والبُسطاء، أكثر ظلماً وظلاماً وقسوة وألماً، فجاءت النّهايات سراديب مخيفة.
شيء ما يتسرّبُ عبر هذه العتبة، يوحي بأن السّرد سيكون قويا مؤلما، متشابكا، يجمع نهايات متعدّدة بتعدّد الشخوص، يتقاذفهم الألم والظلم والخوف بلا رحمة، داخل سراديب الحياة المظلمة. وإذا كانت البدايات بذرة الفضول ومشعل التّوغّل في السرد، وحين يبرع الكاتب في غرسها في ذهن القارئ لتنمو، وينموَ النّص في وجدانه، يتحوّل إلى رحلة، قد تكون شاقّة، تخوض مَعْمَعَ الأحداث داخل السراديب إلى النّهاية التي لم يقف عندها الكاتب، بل احتراما لقارئه، ترك لها فُسحاً لأن تُبنى من جديد، بنظرة جديدة وبأحداث جديدة.
«سراديب النهايات»، تضع القارئ أمام نهايات متعدّدة، الشيء الذي يعني بدايات متعدّدة لقراءات منتجة، رصينة وواعية، فالسارد لا يضع حدّاً أو نهاية أو نقط الوقوف عند نهاية الأحداث، كما لا تعني بالضّرورة نهاية السرد، ونهايات الشخوص، بل، ذكاءٌ من الكاتب وقدرةٌ على أن يُشرك القارئ في همّهم، ويدفعه إلى طرح أسئلته، واقتراح تصوراته.
مسارات الحكي..
«سراديب النهايات »، رواية ، بمسارات ثلاث، تلتقي وتفترق، تصمد وتضعف عبر حكايات الإنسان العادي البسيط، الذي يصنع من أيامه ولياليه، بجهده وعرقه وصبره، بحبه وطيبوبته مسارا لحياة تنهض على إشاعة الدفء والكفاف والحب ونكران الذات، والبحث عن حياة أفضل، أقصاها غربةٌ أو شغلٌ، وآخر نقيضه، يأكل أهله الجشع والطّمع والاستغلال، يستبيحون حرمة وأسرار الآخرين وهم يتخندقون داخل نفق يسيرون فيه وحدهم يجمعون ويكنزون، تموج قلوبهم داخل سراديب مظلمة، لا يلج إليها نور المحبة أو الخير، «يريدُه إذاً، فقيراً مُعدِماً، يقف بالكاد، على قدميه، ولا يجمعُ طموحه لأكثر من الكفاية الذاتية، بحيث يظلّ مشدوداً بحبل الخصاصة إليه»(4)، وثالثٌ يتدخّل فيه السارد بحساب، ذكاء من الكاتب، حين يضع خطوطه وأبعاده، ويترك للقارئ أن يبني مساراً أو مسارات جديدة عبره، منها ينطلق ليُنْتِج نصّاً انطلاقته الرواية الأصل، «سراديب النهايات»، وانتهاءً بمتخيَّل ينسجه بذكائه، يجبره على التّباطؤ وهو يتتبع مسارات الحكي، كما يجبره على الإصغاء لإيقاعات عوالم الشخوص وهي تنهار، وما يكاد يستقيم أوَدُها حتى تنهار من جديد، متأرجحة بين اليأس والتّمسّك بالحياة بخيط رفيع يعني الكفاف وأقلّه، ويطرح السؤال: ما الذي يتبقّى حين ينهار العالم؟
الكاتب هنا، لا يكتب مآسي الشخوص، أو جشع الإقطاعيين والسلطة وأصحاب النفوذ، «.. العياشي الذي توسعت أرضه المتوسطة بالشراء من تخوم الفقراء والمعدِمين مثله، فتحوّلت من ضيعة متواضعة، كانت نواتُها في حدود ستة هكتارات، إلى ضيعة في ملكيته، وتحت يديه، من عقارات في بن جرير»(5) ولا يصف الإذلال المقيت الذي يمتد عميقا في كل مناحي الحياة، بل يكتب ليعيش القارئ مع شخوصه أصدق اللحظات وأقواها، في محاولة لدفعه لأن يكتب ضد هذا الذي ينخر جسد الحياة كالسوس، ليخلق بداية ممكنة لعالم جديد، ينطلق من القلق والبحث في معنى الوجود الإنساني أمام هشاشة الإنسان الذي تترادف أحزانه وانهياراته وخيباته وأحزانه، وهو يبحث، من دون جدوى، عن الخلاص، ماسكا قلبه المجروح ووصيّة الوالد.
فالرواية تحاول تجاوز الحكاية إلى البحث عن معنى الإنسان في عالم صعب يتغير باستمرار، لا يرحم، يأكل الضعيف، وتكشف عمق الوجود البشري في تفاصيله اليومية البسيطة والمعقّدة، فالسرد مرآة للناس في صراعهم وأحزانهم وأحلامهم وأفراحهم، ممّا يجعل الحياة جديرة بالكتابة والقراءة والتّأمّل، وهذا سرُّها، فحين تنبع من نبض الناس، وبساطة الناس، وقهر الناس، تظل قادرة على البقاء، وأكثر قوة في التّأثير على القارئ ليصبح جُزْءً منها، فاعلا منتجا غير متفرّج، ليحمل هو الآخر، قلق الإنسان في بحثه عن ذاته وعن موطئ قدم في محيطه الذي يرفضه.
الجشع والكفاف، مساران، أبداً لا يلتقيان، قد ينتصر الجشع حين يلوذ بالسلطة والمال والقوة، ماردٌ يسكن نفوس مجموعة من الإقطاعيين والقريبين من السلطة، يتحينون الفرص لنهب وسرقة ما بيد الآخرين الباحثين عن الظّل، ينسج بأحداثهم مسارا يستمدّ قوته من الاستحواذ والاكتناز والأنانية الخبيثة، بينما ينحصر الكفاف داخل أردية الخوف والتّردّد وضعف ذات اليد، يسير متردّداً على المسار الثاني مسلحاً بالقناعة والعرق، وكثير من الصّبر.
الجشع والكفاف، متوازيان، أبدا لا يلتقيان، لكنهما يسيران جنبا إلى جنب، قد ينجذبان، قد ينتصر الجشع حين يتّكئُ على السلطة والمال، لكن إلى حين، مآلهُ إلى مصير بارد في متاهات السراديب حيث يندثر ويضيع وتخبو جذوته ليبقى الكفاف مشعا متّكئاً على القناعة والمحبّة، يرسم على الأرض دوائر من نور بألوان الحب والمعاشرة الصادقة.
هذان المساران اللذان رسمهما الكاتب بذكاء وهدوء وعمق، يُشرِّحُ النفس البشرية وما يعتمل داخلها من مشاعر الحب والكره والأمل واليأس، والجشع والكفاف، وما يموج داخلها من اضطراب وتصدُّع، بلغة شفافة، قوية وسلسة، يرتاح لانسيابهما القارئ حين يسْرح داخل معانيها مكتشفا أسرار البناء التي تقيم صرح الرواية، مستشْعراً لذة القراءة ومتانة البناء، بتحريض من الكاتب الذي يفرض عليه أن يتمتع ويسمع لنبض الحياة التي تسري داخل المتن الروائي ويجمع شتات الحكي، يحيك وفي يده خيوط الأحداث التي تتقلب بين انتصار ونكوص، وجشع وقناعة، وأخذ وعطاء، ليبني نصا يبتدئ ليس عند نهاية الرواية، بل عند نهاية أحداث كل شخصية من شخوص الرواية .
مسار الجشع، مسارُ كبار الملاّك والسّلطة وأعوانها، «الحاج العياشي، الحاج الدفالي، أولاد الفقيه العثماني، الحاج بورحيم» ومن يسير على خطاهم، نفسٌ جشعة، متوحّشة، تحب ذاتها كما تحب الاكتناز والاستحواذ، «في منطقة منكوبة بالجفاف والفقر والتهميش»(6)، غاية شهوتها امتلاك ما امتد إليه بصرها، وإذلال الآخر «عبد الرحمن» الذي لا سند له سوى نفس أبية، وتمَسُّك بالمبادئ وقطعة الأرض، ووصية الوالد.
الجشع، ذلك المارد الذي يسكن نفوس مجموعة من الإقطاعيين، ينسج بهم الكاتب مساراً يمتدُّ من الاستحواذ والاكتناز والأنانية الخبيثة، مُروراً بالطّمع بما في أيدي صغار الفلاحين وضعفائهم، وانتهاءً بالسيطرة ووضع اليد على كل شيء، ليُصبح الإنسان مجرّد أداة للاستغلال والإنتاج، لا حقّ له في التّملّك، كائن يخرج من دَوّامة ليدخل أخرى أشدّ منها فتكا وقهرا وإذلالا، والاستحواذ على الأرض وسخرة الفلاحين البسطاء، مسلوخين من إنسانيتهم، مقهورين، مغلوبين يتعرّضون، عياناً، لفرض السطوة عليهم، وإذلالهم بالإخضاع والاتباع، «ما أسوأهُ حظُّه من حظٍّ، يملك أرضا، لكنه لا يملك أن يتمتع بثمْراتها وحده، ومعه عائلتُه، عليه أن يقتسم الأرباح مع غيره: منه البِذارُ، والحرثُ، والعمل، والسّقيُ، والحصادُ...، ومن شريكه الماء. يُعزّي نفسه بالقول إن الأرض، والبذار، والعمل، لا تساوي شيئاً من دون ماء.»(7) ويصبحوا خدماً في أرضهم، صابرين على ذلِّ الحاجة ومصاريف العيش التي لا تنتهي.
مسار الكفاف، وهو مسار عبد الرحمن وعائلته ومن يذوق قهْر السلطة والمال والقوة من صغار الفلاحين، الموازي «للعياشي» وطغمته، وهو الوجود الإنساني الخيّر، غايته الحفاظ على جذوره ثابتة فوق أرض الآباء، رغم أن «الحفاظ على الأرض في زمن الجذب»(8)، معادلة صعبة تسندها المكايد والتخويف والتجويع وقطْع الحياة على الأرض التي تشكو قلة القَطْر.
«عبد الرحيم، السي محمد، مهدي، صفية، فاطمة،» وآخرون، محطات تبرز على طول المسار، تنتصر «لعبد الرحمن» مرة، وتعمق جراحه مرّات، تحاول شدّ أزْره، لكن قصر ذات اليد، وغياب التفكير النّاجح للعناية بالأرض، وعدم مشاركة مهدي وعبد الرحيم في تحمّل المسؤولية، يقصم الظّهر، ويفتح للمسار طرقاً وعرة المسالك عامرة بالإحباطات والكرب واليأس وقليل من الأمل.
كما أن المزج الجميل والذكي بين الفضاءات ونفسية الشخوص والأحداث يجعل من السرد لوحة فسيفسائية تجمع بين الجمال والقبح، الجشع والكفاف، الطمع والقناعة، المكر والوفاء، فالفضاءات تنسجم وروح الأحداث والتيمات وكذا الشخوص، فسرايفو وأفغانستان مثلا فضاءات للحرب والظلم والبطش التي تنسجم والمسار الأول، بينما فرنسا ومراكش وغيرها فضاءات يغلب عليها الهدوء والحب، فضاءات تنسج بالحكي متاهات وسراديب وأنفاق تنفتح أسرارها مرة وتنغلق مرة لتصب في نهايات معَلّقة ومنفتحة على السؤال وبدايات أخرى ينسج القارئ تفاصيلها ليؤسّس نصّاً جديداً لا يكتفي بالتّجاور مع النّص المقروء، بل يدخل معه في محاورة تفكيكية لآليات بنائه، ويحمل تمثلات دلالاته لإنتاج معنى آخر يفتح للتلقّي أحداثا لنص إبداعي ينفتح انطلاقا من علائق النص الأول.
تيمات الرواية، تصب في قالب برأسين، الخير والشر، الجشع والكفاف، «العياشي» و«عبد الرحمن»، عندما يسيران في اتجاه واحد، لكن إلى نهايات مختلفة، يؤثر الأول في الثاني الذي يظهر بمظهر الضعف، لكنه ضعف مشوب بقوة حين لا يستسلم للجشع والإذلال، ليظل المساران مُنجذبين إلى بعضها في بحث حثيت عن نهايات مفتوحة على آتٍ مُنتظرٍ يبني معماره القارئ.
يارا، مسار وحده، لا تربطه بالمسارين أية علاقة، هو مسار وحده، ينساب دافئا، هادئا، طاهرا يعيد الإنسان إلى طبيعته، ويُذكر بالخير الثاوي فيه، تبرز «يارا» ببراءتها لتقول للجشع «قف» وتفسح للحب مجالا أرحب للتأثير وصبغ المحيط بألوان الحب والنقاء.
«يارا» اسم تمتزج فيه المعاني باختلاف الموارد التي يغترف منها؛ فهو الصاحب والمعشوق والقدرة والتمكُّن والشجاعة عند أهل النيروز بفارس، كما هو الماء اللعاب بأرض الأناضول، وهو الزهرة الجميلة أو الشهر السرياني أيار، أو قل هو الحبيبة والعشيقة والصاحب المعين في أرض صيدا وصور؛ تلك الأرض التي ركب أهلها البحر وجابوا فيروز الشُطآن بالمتوسط. لعل الاسم رحل من هناك أو هناك أخلد إلى الأرض بمغرب الشمس عند هذه الزهرة اليانعة. كذلك «يارا» اسم يطلق على أول زهرة تخرج في الشجرة بعد فصل الإمطار والشتاء، كمجيء هذه الحسناء باكورة أمّها مع أول إثمار»(9).
«يارا»، الْتِفاتةٌ ذكية من الكاتب تجعل القارئ يرتاح، ولو إلى حين، من جشع «العياشي» وزيغ «مهدي» وتيه «عبد الرحمن»، وينفت بتواجدها في روعهم دفئا يُحيي موات النفس التي ران عليها اليأس والخوف والقهر، «يارا» بنت عبد الرحيم وكريستين الفرنسية، التي حلّت بسؤال مربك، «في المرة الأخيرة التي تحدثا فيها بالهاتف، وكان ذلك قبل سفره إلى بوردو بعشرة شهور، وأخبره بأنه رُزق ببنت سمّاها يارا، بم يعرف عبد الرحمن إن كان الاسم عربيّاً أم إفرنجياً، بل رجّح أن يكون من أسماء الفرنسيات. وحين سأل أخاه الأصغر مهدي في الأمر، أخبره الأخير بأن اللبنانيين يطلقون هذا الاسم على بناتهم، فاطمأنّت نفسه، وإن ظلّ يشكّ في بقاء زوجة أخيه على دين آبائها وأجدادها.»(10)
«يارا»، مسار وحده، ينبض بالحب والبراءة حين يبزغ للقارئ، يشع بين ثنايا الحكي ينصهر ومسار «عبد الرحمن» العم، و«صفية» الخالة و«الوالدة» الجدّة، وينفر من الآخر الذي يسير أعرج لا يكاد يستقيم إلى جنبه لكنه ضده، رغم أنه لا يخل بمسار الحكي في كليته، بل يضيف إليه مسحة من جمال يُبرِّد النفس، ويهدّئ من قسوة الأيام، ولا يوجِدُ لنفسه حضوراَ قويا يساير الحكي، بل يترك الكاتب للقارئ أن ينظر فيه، ويصبغه بما يجعله يؤسس لبداية ونهاية جديدة بملامح تحمل طابعه الخاص. «سُرَّ لزيارة أخيه المفاجئة. وسُرَّ أكثر لرؤية ابنته يارا لأول مرة. بسمل كثيرا وهو يتأمّل وجهها الصّبوح الجميل... ثم انحنى فحملها على كتفه وبدأ يجول بها في أنحاء الضّيعة»(11)
بداية النهايات..
لكل شخص من شخوص الرواية أسراره التي يُجَلّيها السارد بهدوء وروية، ليُدخِل القارئ في تجاويف ذاتها ليكتشف أسرار الذات البشرية وغربتها وتقلباتها وعمقها، حيث تختزن الجمال والقبح، والجشع والكفاف عبر تقاطعات سردية تسير به ليختبر ذاته هو عبر الذوات المؤسِّسة لمتن الرواية والمحركة لأحداثها، التي تصور الإنسان عاريا، كتابا مفتوحا على قراءات متعددة، بقوته وضعفه، بفرحه وحزنه، بجبروته وتواضعه وهو يسير إلى سراديب نهاياته، لتصبح كل نهاية لحظة كشفٍ وتحولٍ وانفتاحٍ على آتٍ غامض، تُشرك القارئ في التأويلات الممكنة، والأسئلة المقلقة إلى ما بعد النهاية بوساطة وعي فضولي تخييلي برع الكاتب في فتح فُرْجاته، ليزجّ به في خضمّ اللعبة بتسليمه مفاتيح الاحتمالات الممكنة والأسرار التي عليه أن يسبر أغوارها، «دهش حين رأى أمامه أربعة رجال، وجوه متجهمة، بدت له مكفهرة، ونظرات حادة مصوبة إليه كالسهام، نطق أحدهم:
أنت عبد الرحيم؟
نعم..
تفضل معنا..»(12).
تلك نهاية الرواية، ونهاية عبد الرحيم، وللقارئ أن يتخيل بداية لهذه النهاية عبر مسار رابع، نهاية «عبد الرحيم» والآخرين «مهدي» و«حليمة»، التي بُنيت بداياتها حين كان لهم وجود وتواجد، وتلك غاية الكاتب، إشراك القارئ في لعبة الحكي تنطلق من النهاية/النهايات، لأن القارئ الإيجابي النّشط والمبدع الذي رغم انتهاء الأحداث، يؤسس بدايات نص جديد على أنقاض هذه النهايات بنفس الشخوص أو شخوص غيرها، من نسج خياله، تأسيساً جديد يرفع قواعده وهياكله عند نهاية الحكاية، حكاية «مهدي» و«عبد الرحمن» و«حليمة» الذين زُج بهم في سراديب ومتاهات يغلفها المجهول ليظل السؤال مشاغبا ومشاكسا.
وماذا بعد؟
من هنا يبدأ نص القارئ ويؤسس مساره الخاص، رغم أن الكاتب بنى لبعض شخوصه نهايات حتمية، إلا أنه سكت عن بعضها ليترك للقارئ أن يوظف قراءاته ومعارفه وخياله ليصنع من النهايات بدايات لسراديب تنتظر فاتحة فاها لاستقبال شخوص وأحداث جديدة تنطلق في مغامرة جديدة ابتدأها الكاتب ليُنهيها القارئ.
تلك هي «سراديب النهايات»، النهايات التي تركها الكاتب للقارئ أن يتصور فضاءاتها ومتاهاتها، وأن يفتح لشخوص روايته مجاهيل وسراديب أخرى، ويبني لهم متنا روائيا متخيلا يُدخلهم فيه، ويحركهم كما يشاء، ويختار لهم نهايات غير النهايات، ويؤسس معهم وبهم، نصا آخر يُنهي به فعلا سراديب النهايات، أو بدايات النهايات.
***
عبد الهادي عبد المطلب
الدار البيضاء ـ المغرب
................................
(1) . خالد حسين. سميائيات الكون السردي. دراسات نقدية. منشورات رامينا 2023. (ص48).
(2) . عبد الإله بلقزيز. سراديب النهايات. منتدى المعارف بيروت 2014.
(3) ـ محمد بن مكرم بن علي بن منظور. لسان العرب. الطبعة الثالثة. دار صادر بيروت 1993.
(4) عبد الإله بلقزيز. سراديب النهايات. منتدى المعارف بيروت 2014. (ص 13).
(5) المصدر نفسه (ص 9).
(6) المصدر نفسه (ص 15).
(7) المصدر نفسه (ص 11).
(8) المصدر نفسه (ص 157).
(9) محمد رزيق. طارق ويارا. نص في إطار التّشكّل.
(10) عبد الإله بلقزيز. سراديب النهايات. منتدى المعارف. بيروت 2014. (ص 38).
(11) المصدر نفسه (ص 173).
(12) المصدر نفسه ص 351.






