قراءات نقدية
سعاد الراعي: جدلية المقدّس والخراب في قصيدة "أقنعة المكائد" للشاعر طارق الحلفي

قراءة في البنية الرمزية والشعرية
تغدو القصيدة المعاصرة، في لحظات الانهيار الجمعي، مساحة لاستعادة الأسئلة الكبرى حول الهوية والقدر والمقدّس، عبر لغة تُقاوم المحو وتُعيد تشكيل الوعي. في هذا السياق، تبرز قصيدة "أقنعة المكائد" للشاعر طارق الحلفي بوصفها نصًا شعريًا ذا بنية رمزية كثيفة، يتقاطع فيها الذاتي بالجمعي، والميتافيزيقي بالسياسي، حيث تتحوّل التجربة الشعرية إلى مرآة تعكس تشظي الذاكرة وتكرار التاريخ بوصفه مأساة لا تنفكّ تعيد إنتاج ذاتها.
تسعى هذه القراءة إلى مقاربة القصيدة من منظور شامل، يكشف عن طاقتها الرمزية، وأبنيتها الجمالية، وخطابها الفكري والوجودي، إضافة إلى إسقاطاتها الاجتماعية والسياسية والدينية، مع إبراز مواطن القوة البلاغية فيها.
* في البنية الجمالية والتوتر الإيقاعي
تتوسّل القصيدة بنيةً لغوية متوترة، مشحونة بالصور والإنزياحات، قائمة على تراكيب مشهدية تتكئ على التكرار والتوازي والإيقاع الداخلي، ما يمنحها طابعًا طقوسيًا ونبوئيًا. يُلاحَظ منذ المطلع:
"وبِلادٍ أيقظتها دَوْرَةُ المَوتِ
وَكُثْبانُ الغِيَابِ"
أن اللغة تستدعي فضاءً رماديًا، زمنًا معطّلاً، ومكانًا مثقلاً بفقد المعنى. هذه الافتتاحية تُرسي أُسس الرؤية الشعرية القائمة على استدعاء الموت لا بوصفه نهاية بل كـ "دورة" دائمة، تُنتج الغياب وتعيده، وكأنّ التاريخ يتحرك في فلكٍ مغلق من العنف والتكرار، كما ان التشظي الإيقاعي في الجمل الشعرية يُعبّر عن انكسار داخلي، ويخدم الدلالة، ويعكس تهشّم الوعي الجمعي الذي تتحدّث عنه القصيدة بوضوح.
* الرمز الديني بوصفه أداة للمساءلة لا للتبرير
تتداخل في القصيدة إشارات دينية متعددة، تُطرح لا كمسلّمات عقائدية، بل كمفاهيم قابلة للتأويل تُخضع للمساءلة. يبرز ذلك في قوله:
"حينَما طَوّقها اللهُ بِملهاةِ الحُروبِ
فذَبَحنا بِاِسمِهِ أهلنا دُونَ لُهاثٍ"
هذا المقطع يُعيد إنتاج خطاب القتل المقدّس بلغة صادمة، حيث يُستحضر اسم الإله في سياق التبرير للذبح، في نقد ضمني لانتهاك القداسة وتوظيف الدين لتبرير الدماء. إنه توظيف شعري للمقدّس بوصفه ساحة تأويل مشروعة، تُفتَح فيها الأسئلة لا لتُغلق.
وتتجلّى المفارقة في صورٍ رمزية أخرى:
"مِهْرَجانًا لِمَسيحٍ كبّلتهُ الفاجعات،
او إزارًا لِشَفِيعٍ تَرتَجيهِ المعجزات"
في هذا التشكيل الشعري، تُستعار شخصية المسيح، لا بوصفه مخلِّصًا لاهوتيا، بل كرمز فادح النبل، ضحية أخرى تضاف الى سلسلة لا تنتهي من المصلوبين، أولئك المكبَّلين بالفواجع، في مشهد يتكرر في تراجيديا إنسانية، لا بخلاص موعود. اما الشفيع الذي".. ترتجيه المعجزات"، فهو ليس سوى المخلص المنتظر او المنقذ الغائب الذي تعلق عليه الآمال في زمن عز فيه الفرج.
* الرؤية السياسية والاجتماعية ـ من مركز الفعل إلى هوامش العبودية
تكشف القصيدة تحوّل الذات الجماعية من موقع "المرجِع" إلى موقع "العبودية"، بلغة تفضح التقهقر والانهيار:
"مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا عبيدًا لِلجنودِ القَتَلَةْ
مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا خُطامًا في مَزادِ السَّفَلَةْ"
يُظهر هذا التحول قطيعة رمزية مع التاريخ المجيد، ويتحول الفاعل الجمعي إلى مفعول به ضمن ديناميكية محو الوعي والكرامة. يتكرر مفهوم "القدر" كقوة ضاغطة تحكم وتُقصي وتُسقط:
"قَدرًا.. يَطرُدُنَا بَعْضُ رجالٍ
قَدرًا.. يَحْكُمُنا نِصْفُ رِجالٍ"
القصيدة تُحمِّل الواقع السياسي مسؤولية الانهيار، من خلال التلاعب بمفاهيم الرجولة، والسيادة، والشرعية، وتُسقط عنها أقنعتها لتُظهر هشاشتها.
* جدلية الرماد والقيامة ـ انتظار المعنى خلف ميعاد المعاد
يستمر النص في اشتقاق تأويلات رمزية من المفردات الدينية ("التيمم"، "الصلاة"، "الرحمة"، "الميعاد")، ولكنه يعيد توظيفها خارج سياقاتها الطقسية، لتكون إشارات إلى عجز الخلاص وتأجيل المعنى:
"فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ
خَلف مِيعادِ المَعادِ"
إنها صورة ميتافيزيقية للمعنى وقد استتر، وتحوّل إلى رجاء مؤجل، إلى قيامة محتجبة، ما يُضفي على النص بُعدًا فلسفيًا/ وجوديًا، يُعبّر عن ضياع البوصلة في زمن الانهيار المعنوي.
* إسقاطات معاصرة ـ التاريخ كأقنعة متكرّرة
تنبني القصيدة على ما يمكن وصفه بـ "فلسفة الأقنعة"، حيث تتكرّر المآسي بأوجه جديدة، ولكن الجوهر واحد:
"دَوْرَة اخرى سَتَأْتي
بِمَرَايا الأقنِعةْ"
إنه تكرار قاتل، لا يحمل أملاً في التجديد، بل في المراوغة، و "فيَض الصليل" هو تعبير عن انفجار عنفٍ مسلّح، فُرض قسرًا في مجتمعات تُدار بالمكيدة لا بالعدالة.
يُسقط النص هذه البنية الدائرية على الواقع العراقي بخصوصيته، والعربي بعموميته المتقاربة، بما يعانيانه في "مزاد السفلة"، و "خُطام العبودية"، حيث تُباع القيم، ويُدفن الأمل في رماد الخراب، وتُزيَّف المآسي باسم الاحتفالات.
* مقارنة مع نماذج من الشعر العالمي ـ في المأساة ووحدة الوجع
يتقاطع صوت القصيدة العربية في "أقنعة المكائد" مع أصوات شعراء عالميين عبّروا عن الألم الجمعي والحروب والدمار الأخلاقي، بأساليب شعرية كثيفة الرمزية، مثل:
1. باول تسيلان الشاعر الالماني في قصيدة "أنشودة الموت"
واحد من أبرز شعراء ما بعد المحرقة، كتب تسيلان شعرًا يفيض بالتجربة الجماعية للموت، ويُعيد تفكيك اللغة ذاتها بوصفها أداة للخلاص والموت معًا. في قصيدته "أنشودة الموت"، يقول:
"الحليب الأسود للفجر، نحن نشربه مساءً
نشربه ظهرًا وصباحًا، نشربه ليلًا
نشربه، نشربه"
تسيلان، كما شاعر "أقنعة المكائد" طارق الحلفي يوظف التكرار الطقسي لتكريس فكرة الدائرة العبثية، ويربط الموت بالمقدّس عبر صورة "الحليب الأسود"، تمامًا كما يربط شاعرنا الصلاة بـ "الرماد"، والوضوء بـ "حصاد الدم"، وهو ما يمنح النص العربي بعدًا كونيًا مشتركًا في مأساوية التجربة البشرية.
2. ت. س. إليوت ـ الشاعر الانكليزي في "الأرض الخراب"
في رائعته الشهيرة، يرسم إليوت لوحة ما بعد الحرب، حيث الرماد يحل محل المعنى، والقيامة مؤجلة، والإنسان يعيش في "أرض خراب". يقول:
"أبريل أقسى الشهور
يخرج الليلك من أرض الموت"
إن ثنائية القيامة/ الدمار عند إليوت تُقابل تمامًا ثنائية "الرحمة من رحم الرماد" في "أقنعة المكائد" كلا الشاعرين يستدعي الميثولوجيا والدين، ولكن لا كوسائل خلاص، بل كأدوات تفكيك للمأساة.
3. فيسوافا شيمبورسكا في"نهاية وبدء"
في قصيدتها "نهاية وبدء" تتحدث الشاعرة البولندية الحائزة على نوبل عما بعد الحرب، عن اللحظة التي يعود فيها الناس للحياة، بينما تبقى المعاني مستترة:
"بعد كل حرب
يجب أن يقوم أحدهم بترتيب الأمور
نوعٌ من النظام
لا يحدث من تلقاء نفسه"
وهو ما يقابل قول الشاعر في "أقنعة المكائد":
"فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ
خَلف مِيعادِ المَعادِ"
كلاهما يعبّر عن قصور المعنى، وانهيار البُنى القيمية، وحاجة ما بعد الدمار إلى من يُرمّم الخراب الوجودي.
4. ناظم حكمت ـ "قصيدة عن طفل ميت في الحرب"
ناظم، المناضل التركي، يُسقط في شعره الحروب على جسد الطفل، الانسان العادي، لا السياسي. يقول:
"كان يملك يدين صغيرتين،
كان يستطيع أن يلعب بهما،
أن يكتب بهما..
لكنه مات"
يتقاطع هذا الحس الإنساني، البسيط والموجع، مع روح "أقنعة المكائد" التي تُدين تكرار المجازر باسم القيم أو الإيمان، وتُسقط الحروب على الجسد الجمعي والبراءة.
يتبين أن قصيدة "أقنعة المكائد"، وإن كانت من رحم تجربة عربية، فإنها تتناغم في خطابها الرمزي والإنساني مع تجارب شعرية عالمية كبرى، ما يجعلها قابلة للانفتاح على النقد المقارن.
لقد استطاع الشاعر أن يوظف الحس التنبّئي والألم الجماعي بأسلوب بلاغي يُقارب كبار الشعراء العالميين في التعبير عن لحظة السقوط، وتكرار المجازر، وغربة الإنسان في مدارات الخراب. وأن يوظّف أدواته البلاغية والفكرية لبناء نصٍ يُوازي بين الشعر والنبوءة، بين المرثية والصلاة، بين الدم والقيامة، ليمنح المتلقي تجربة شعرية مغايرة، تُلامس الألم، وتوقظ السؤال، وتدعو إلى التحرّر من "الأقنعة" قبل أن تُعاد "الدورة" مرة أخرى... كما يُحذّر النص في كل مقطعٍ تقريبًا.
***
سعاد الراعي
2025.08.04
........................
"اقنعة المكائد"
وبِلادٍ أيقظتها دَوْرَةُ المَوتِ
وَكُثْبانُ الغِيَابِ
قد دَخَلناها نُعيدُ الذِّكرياتِ
قَد دَخَلناها ومِن بابِ الحَرائِقْ
حينَما طَوّقها اللهُ بِملهاةِ الحُروبِ
فذَبَحنا بِاِسمِهِ أهلنا دُونَ لُهاثٍ
وتَوَضَّأْنا حَصادَ الدَّمِ في كُلّ تَأَنٍّ
وتيَمَّمنا ضُحى قَبلَ الصَّلاةِ
كي نُداني تَرَفَ الرَّحْمَةِ مِن رَحْمِ الرَّمادِ
قَبْلَ أنْ يَرْتَطِمَ الضَّوءُ بِأَهْدابِ الصَّباحِ
وَيَفزّ المَيْتون.
**
دَوْرَةٌ أخرى سَتَأْتي
بِطَواحينِ المَكائِدْ
دَوْرَة اخرى
يُعادُ المَشْهَدُ المترع بالموتى
ومِن دُونَ ارتيابْ
دَوْرَة اخرى سَتَأْتي
بِمَرَايا الأقنِعةْ
فَنُعاني قَدرًا سُلطانهُ فَيضُ الصّليل
قَدرًا.. يُرْهَنُ ارضًا لِضَياعٍ أَبَدي
قَدرًا.. يَطرُدُنَا بَعْضُ رجالٍ
قَدرًا.. يَحْكُمُنا نِصْفُ رِجالٍ
قَدرًا.. يَهرِبُ مِن بُرْجِ القِيامَةْ
حامِلًا أسماءَنا طَعنةُ عُريٍّ
لصَهيلِ الحَلباتِ
كي نُسَمّي كُلّ إيماءَة يَأْسٍ،
مِهْرَجانًا لِمَسيحٍ كبّلتهُ الفاجعات،
او إزارًا لِشَفِيعٍ تَرتَجيهِ المعجزات.
**
مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا عبيدًا لِلجنودِ القَتَلَةْ
مَرْجِعًا كَنَّا وَأصْبَحْنا خُطامًا في مَزادِ السَّفَلَةْ
مَرْجِعًا كَنَّا وَاِصْبَحْنا هَبابًا
بَعثرتهُ الرّيحُ في فَوْضى مَكِيدَةْ
مَرْجِعًا كَنَّا وَاِصْبَحْنا ظِلالًا لأفولِ الأصدِقاءِ
نَنْقلُ القَوْلَ بِصَمْتٍ وَنُغَنّي بِضَميرِ الغَائِبينَ
فاسْتَكانَتْ خامَةُ المَعنى رَجاءَ الاِخْتِباءِ
خَلف مِيعادِ المَعادِ
**
كُلمّا رَفّ على البُعْدِ جَناحٌ
اسقَطتهُ الطائِرات
**
طارق الحلفي