قراءات نقدية

عدنان عويّد: قراءة نقديّة لقصيدة الشاعرة (مروى وسام قره جة)

"مروة وسام قره جة" شاعرة سوريّة من محافظة اللاذقيّة، خريجة معهد هندسي اختصاص مساحة، وخريجة أدب عربي، عملت في دمشق بمهنة التعليم حيث شغفها، كما عملت في تقديم البرامج التعليميّة على الفضائيّة السوريّة... تقول عن نفسها: (بأنها تهوى الشعر كما أظنه يهواني). هي تسعى جادة لديوان شعر متى سمحت الظروف يتضمن حروفها.

قصيدة بلا عنوان، هكذا أرادت الشاعرة "مروى وسام قره جة"، أن تقدم قصيدتها للمتلقي، ولا أعرف هل السبب في تركها العنوان شاغراً هنا سهواً، أم أنها تدرك أن "الحب" الذي شغل كل مساحة القصيدة هو أكبر من أي عنوان، فـ (الحب) لا يحده زمان أو مكان... نعم الحب أكبر من أي عنوان في هذه الحياة، بل هو جوهر الحياة، هو الروح التي تعبر عن وجود الإنسان ذاته، وإن فقد الإنسان روحه أو جوهره لم يعد هناك طعم حقيقي للحياة.

من هذه المنطلق القيمي الإنساني جاءت القصيدة بكل حمولتها الفكريّة والوجدانيّة والجماليّة مشغولة بالحب. فالشاعرة إنسانة تتجلى إنسانيتها في عمق أحاسيسها ووجدانها ومشاعرها وبوحها، ولفرطِ أو عمق معرفتها بجوهر ودلالات الحبِّ، تظل أُمنيتها أن يغمرَ هذا الحبُّ (أمساً فاتها وغدها). بيد أن هذا الحب الذي شغلها تجاوز المحسوس من شهواته، ليتفرد بكل ما يعبر عن الإنسان وطموحه في خلق علاقات إنسانية نبيلة يسودها الأمن والاستقرار والهدوء والسعادة والفرح. ومن هذا المنطلق تقول الشاعرة "مروة":

من ودّ ودّك بادله وزدْ وداً

ضاعف ودادك ما أسخاكَ بالزّيد

فمن رآكَ بعينِ الحبّ أحضنه

بالحب ضاعف ولا تأبه ولا تحدِ

نعم هكذا تتجلى النزعة الصوفيّة في فهمها للحب، إلا أنها ليست نزعة مفارقة للواقع، هائمة في عالم المثال واللامعقول كما هو الحال عن المتصوفة. بل هي نزعة صوفيّة وجوديّة واقعيّة من نوع آخر، تريد أن تربط الإنسان بواقعه كي يتعلم أن خلاصه الأبدي لا يحققه الهروب من هذا الواقع أو الانغماس في ملذاته وكل مآسيه، بل الالتحام والتوحد به إيجابياً، وهذا لن يتم إلا من خلال إدراك الإنسان لمعنى "الحب والتسامح" والبحث عن القيم الإنسانيّة النبيلة في أعماق كل فرد منا وتوظيفها في علاقاتنا اليوميّة المباشرة ألفة ومحبة.

إن الحب كما تقول الشاعرة: لا يقتل بل يُحيي جوارحنا.. ففي الحب ننسى ونتلاشى الحروب والصراع والقهر والاستبداد والظلم وكل ما يسئ إلى قيمنا النبيلة. لذلك تقول شاعرتنا:

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

إني لأنسى إذا أحببتُ عالمكم

والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ

أغدو جناحاً وكم تزدادُ يا عددي

نعم العمر محدود ولن يخلد الإنسان في هذه الحياة، لذلك عليه أن يتشبع بالحب ويمارسه في حياته كي يتخلص من شقاء هذه الحياة حيث تقول:

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ...

إن الفكرة العامة للقصيدة كما بينا تشتغل على "الحب" ولقد استطاعت الشاعرة تحقيق الانسجام والترابط بين الأفكار الفرعيّة داخل معمار القصيدة والفكرة العامة، لقد نقلتنا ببراعة وقدرة على تراسل الأفكار وانسجامها وحسن الانتقال والربط بينها، كما يلاحظ المتلقي أيضًا عمق الأفكار وابتكارها وأصالتها، وهذا ما يؤثر في المتلقي ومشاعره ويشعره كأنه أمام حدث فكري صيغ بأسلوب قصصي.

الصورة في القصيدة:

لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأت الأديبة إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنية القارئ بالصور إلى جانب المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف؛ في لغتها التصويريّة. لقد كانت الشاعرة أكثر قدرة على التعبير في بوحها من التقرير. وبالتالي  كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا فإن الأفكار تطغى على الصور.

لقد جاءت الصورة عندها جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز: (أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي)، (فمن رآكَ بعينِ الحبّ احضنه)، (لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا)، (والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ)، (ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....).

ولكون الشاعرة استطاعت أن تجعل من تراسل صورها حكاية أو اقصوصة حب، فقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعرة النفسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعرة الداخلي وارتباطه بعالمها الخارجي الذي تدفقت عواطفها واحاسيسها نحوه دون حساب من أجل الارتقاء به عن طريق الحب.

هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعرة بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.

الايقاع في القصيدة:

لقد اشتغلت الشاعرة "مروة" على البحر (البسيط)، وعلى قافية حرف (الدال). وبالتالي هي لم تتمرد كشاعرة معاصر على الوزن والقافية، بل أجادت اختيار البحر والقافية معا، فجاء الرتم الموسيقي هنا مطابقاً في الواقع لمضمون بنية القصيدة وإعطائها جماليّةً ورهافةً أثرت بالمتلقي. إلا أن الشاعرة استطاعت برأيي أن تعتمد بحرفيّة على الصوت في تحقيق الإيقاع، فالصوت جًسًدُ الشّعر، وبه يقوم المعنى. إن المادة الصوتيّة في السياق اللغوي هي عبارة عن الأصوات المتميّزة من تعاقب الرنات المختلفة للحركات والإيقاع والشدّة وطول الأصوات والتكرار وتجانس الأصوات المتحرّكة والسّاكنة ونعومتها، وغير ذلك ممّا يثري الإيقاع ويغنيه، كما اعتمدت الشاعرة أيضاً على الصورة كثيراً في قصيدتها بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة نغمتها مشاعرها وانفعالاتها المرتبطة بالموقف (أهمية الحب) الذي أدى إلى إعطاء قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي من صورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن الشاعرة بالصوت والصورة والبلاغة، أمنت في أبيات قصيدتها موسيقى داخليّة جميلة جداً يتساوق بناؤها مع تجربتها.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل. كما نلمس في القصيدة جانباً مضمرا يحمل هماً وطنياً إلى جانب الهم الإنساني العام.. أما دوافع عاطفة الشاعرة فهي القيم الإنسانيّة العميقة والثابتة، نعم هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا  في مضمونها إلا أنه هم عام في دلالاته.

لغة القصيدة:

لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبه والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفة فصيحة بسيطة في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يحمل فيها آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية اللذيذة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.).

أخيراً نقول : لقد كنا أمام قصيدة لشاعرة، تمتلك أدوات حرفتها تماماً، استطاعت عبرها أن تنقلنا إلى مساحة كبيرة من الأمل والتفاؤل والمعرفة معاً.. ففي الأمل رحنا نجد أن هناك أصواتاً حرّةً في عالمنا الإنساني الذي فُقد الحب بين مكوناته البشرية في كل مكان، أخذت تقول بإمكانية هذا الأمل أن يزرع عندنا التفاؤل بعالم أفضل. (ونحن محكومون بالأمل) كما يقول المسرحي الراحل "سعد الله ونوس". وكما تقول شاعرتنا:

لفرطِ حبي لطعمِ الحبِّ أُمنيتي

أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي

وفي التفاؤل بينت لنا الشاعرة عبر بوحها إن تمسكنا الحب هو طريق لتجاوز معوقات هذا الواقع المرير المشبع بالقهر والظلم والفقر والجوع والغربة والدم.

لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

وأخيرا استطاعت الشاعرة عبر بوحها أن تحقق المعرفة بأهمية الحب لمن يجهل قيمته بقولها:

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا

.......................

القصيدة:

لفرطِ حبي لطعمِ الحبِّ أُمنيتي

أن يغمرَ الحبُّ أمساً فاتني وغدي

من ودّ ودّك بادله وزدْ وداً

ضاعف ودادك ما أسخاكَ بالزّيد

فمن رآكَ بعينِ الحبّ احضنه

بالحب ضاعف ولا تأبه ولا تحدِ

لا يقتل الحبُ بل يُحيي جوارحنا

هل يحملُ الضرّ من يشفيكَ من كمَدِ

إني لأنسى إذا أحببتُ عالمكم

والحبُّ يأخذني جمعاً بلا أحدِ

أنسى الحروبَ وخوفاً بات يخنقكم

أغدو جناحاً وكم تزدادُ يا عددي

فكن محباً أيا صاحٍ وكن كَلِفاً

ما العمر إلا فقاعات من الزَّبدِ....

***

الشاعرة مروة وسام مروة

في المثقف اليوم