أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: كيف أدت تعاليم فيثاغوراس الفلسفية الى فوضى سياسية؟

لم يؤسس فيثاغوروس فقط مدرسة فلسفية متجذرة في الرياضيات والتصوف وانما انخرطت ايضا في السياسة في جنوب ايطاليا من خلال ترسيخ النظام المدني المتناغم والمنضبط المرتكز على تعاليمه. وحتى عندما يتم تذكّر أتباع فيثاغوروس في تأثيرهم العميق في مجال الرياضيات والتصوف وعلم الكون، فان ذلك التأثير امتد الى ما وراء الفكر المجرد الى الميدان السياسي، وبالذات في ماجان غراسيا (جنوب ايطاليا) في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. في المدن اليونانية القديمة مثل كروتون و ميتابونتوم و تارينتم حاولت الجماعات الفيثوغورية ترجمة مُثلهم السياسية الى واقع سياسي له تأثيراته المستمرة.

الفلسفة والسياسة

يُعتقد ان فيثاغوروس هاجر من ساموس الى كروتون في سنة 530 قبل الميلاد. هو أسس مدرسة فلسفية ودينية سعت الى دمج طريقة في الحياة مرتكزة على الفضيلة والتناغم وممارسة الحكمة. الطريقة الفيثاغورية في الحياة أكدت على الزهد والنباتية والايمان بتناسخ الارواح وتقديس عميق للأعداد والنظام. عاش أعضاء الجماعة في جماعات متماسكة مارست التعاون المتبادل والسرية والانضباط.

الفيثاغوريون لم يتأملوا فقط بأفكار مجردة بل اعتقدوا ان مبادئهم الفلسفية يمكنها ويجب ان تحدد شكل المجتمع. هم سعوا الى جلب طريقتهم في الحياة الى المواطنين، معززين رؤية للنظام المدني عكست التناغم الذي تصوروه في الكون. هم أكدوا على الحوكمة الاخلاقية والاعتدال والعدالة. هم في اغلب الاحيان اكتسبوا قوة سياسية عبر إبداء النصيحة للحكام المحليين او الإمساك المباشر بالسلطة. هذا الانصهار الفلسفي السياسي كان بارزا جدا في كروتون حيث يتغلغل النفوذ الفيثوغوري في حكومة المدينة. وبينما هم منخرطون في السياسة، أسس الفيثاغوريون ما يصفه الباحثون بارستقراطية الحكمة في جنوب ايطاليا. انه حكم بواسطة اولئك الذين أظهروا تميّزا فكريا وأخلاقيا.

ردود الفعل على الحكم الفيثاغوري

ان انهيار النظام الفيثاغوري لم يكن فقط نتيجة للحظ السيء. انه كان نتيجة لطموحاتهم الجريئة. اساسا، مع السرية والاخوة الفلسفية انتقل الفيثاغوريون تدريجيا الى السياسة. هم حاولوا اعادة صياغة الحياة اليومية والاطار الاخلاقي للمدن التي أثّروا بها. هم اعتقدوا ان المجتمع ذاته يمكن تنقيته من خلال ضبط صارم وحياة جماعية وخضوع لشعور من التناغم الأعلى. مع ذلك، هذه المُثل التي فُرضت من الأعلى بدلا من ان يتم احتضانها طبيعيا، اثارت الإستياء بين قطاع واسع من السكان. العديد من المواطنين العاديين يرون ان طريقة فيثاغوروس في الحياة بدت نخبوية وقاسية وغريبة على تقاليدهم.

تدخّلات الفيثوغوريين السياسية خاصة ضد السيبارتيين،زادت من عزلتهم. حيث سقطت مدينة سيباريس الجميلة والقوية في انحطاط، والفيثاغوريون ساعدوا في تحطيمها عبر منافستها كروتون. ومع انهم اعتبروا هذا كنصر أخلاقي، لكن المحصلة العنيفة أدت الى تأجيج الغضب الشعبي.

الناس القلقون من الجماعة التي سعت للسيطرة على حكوماتهم وعاداتهم الشخصية، بالنهاية ثاروا ضدها. حيث تعرض للهجوم منزل الاجتماع الفيثوغوري، وقُتل عدد من أعضاء الجماعة ونُفي البعض الاخر، وبالنهاية تحطمت الحركة. ان محاولة فرض قسري لمُثل الحياة كلّف الفيثاغوريين نفوذهم، تاركين فقط بقايا متناثرة من تقاليدهم القوية السابقة. وفي النهاية، انفجر هذا الإستياء الى ثورة عنيفة. في كروتون ومدن اخرى، هاجمت الخلايا المضادة للفيثوغورية أماكن اجتماعاتهم فقتلت او طردت أعضاء من الجماعة. المصادر القديمة مثل الفيلسوف يامبليكوس والكتّاب المتأخرين كتبوا بان موجة الاضطرابات عبر ماجان جراسيا في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد فككت الكثير من الجهاز السياسي الفيثاغوري.

شهادة بلوتارح: مأساة ميتابونتيون

بينما وجد الفيثاغوريون الراحة في جلب أفكارهم الفلسفية للحياة المدنية، لكن لم يكن جميع المواطنين بذلك الحماس. وبمرور الزمن، ازداد الاستياء بين شرائح السكان الذين رأوا الحكم الفيثاغوري نخبويا وسريا. تفرّد نظامهم المترافق مع انعزالهم ولّد الشكوك والكراهية. طبقا لبلوتارح في عمله (حول الصوت الداخلي لسقراط) حدثت احدى اكثر الحلقات الماساوية في تاريخ الفيثاغوريين في ميتابونتن. عندما انفجرت الحرب الاهلية وانتشرت الخلايا المناهضة للفيثوغوريين بتحريض من أتباع رجل اسمه سيلون، اجتمعت جماعة من الفيثوغوريين في منزل الاجتماعات. قام خصومهم باطلاق النار على البناية فقتلوا جميع منْ في الداخل. نجا فقط اثنان من الشباب الفيثاغوريين : فيلولاوس و ليسس الذين هربا بفضل قوتهما وسرعة حركتهما.

فيلولاوس بالنهاية وجد ملاذا بين اللوكانيون. هو لاحقا عاد ليساعد ويعيد تنظيم بقايا الاخوان الفيثاغوريون. من جهة اخرى، بقي ليسيس لسنوات في سرية تامة. لاحقا، التقاه الفيلسوف جورجياس كما يذكر في رسائله.

الإرث والانحدار

رغم هذه النكسات، استمرت الافكار الفيثاغورية في التأثير على الفكر اليوناني القديم خاصة من خلال التقاليد الفيثاغورية الجديدة والافلاطوية الجديدة. وبينما تضاءل انشغالهم السياسي المباشر، بقي نموذجهم في الحياة الموجهة فلسفيا مؤثرا بين الفلاسفة اللاحقين مثل افلاطون.

ان محاولة الفيثاغوريون دمج الفلسفة في السياسة تمثل واحدة من أقدم التجارب المعروفة في بناء حياة مصممة فلسفيا كأساس للحوكمة العامة. ومع انهم واجهوا مقاومة وقمع في النهاية، لكن إرثهم هو شهادة على قوة وخطورة محاولة ربط المدينة بالكون.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم