أقلام فكرية
مشكلة المعرفة الرياضية.. البُعد الميتافيزيقي
بقلم: رويفيرا
ترجمة: حاتم حميد محسن
***
ماهي بالضبط الاشياء الرياضية؟ وكيف تتصل معرفتنا بها؟ منذ افلاطون (427-347ق.م) كانت هذه الأسئلة أساسية لفلسفة الرياضيات. افلاطون ادرك ان الرياضيات تتضمن دوائر تامة، مثلثات، وما شابه. لكن كما لاحظ افلاطون، ان لا وجود في العالم لدوائر تامة او مثلثات، ما يوجد فقط تقريبات غير تامة. لو تصوّرنا مضلّعا بأعداد متزايدة من أضلاع متساوية. عندما يقترب عدد الاضلاع من اللانهاية، سيصبح المضلع دائرة. وهكذا، الدائرة التامة يمكن تصورها كمضلع بعدد لا متناهي من الأضلاع اللامتناهية في الصغر. لذا، لا يهم كم هو دقيق الكومبيوتر في عمل الدائرة، سوف يكون فقط تقريب غير تام. الانسان المتناهي وما لديه من كومبيوتر لا يستطيع خلق أشياء بخصائص رياضية لا متناهية، مثل الاضلاع اللامتناهية للدائرة المثالية. افلاطون استنتج طالما لا وجود هناك لأشياء رياضية تامة في العالم، فان أشياء الرياضيات (الدوائر التامة والمثلثات والأعداد ذاتها) يجب ان توجد كأشياء مجردة أبدية وراء الزمان والمكان في عالم افلاطوني آخر يسمى عالم الأشكال (الأفكار). نوع افلاطون الخاص للواقعية الرياضية (أي إضفاء الواقع الموضوعي على لأشياء الرياضية) كان من اكثر وجهات النظر السائدة حول الرياضيات بين كل من الفلاسفة والرياضيين منذ ذلك الحين.
لكن العديد من الفلاسفة بعد افلاطون – خاصة التجريبيين الذين ينظرون الى كل المعرفة باعتبارها تُكتسب من خلال التجربة – كانت هذه الرؤية المتجاوزة للرياضيات غير معقولة. وهكذا، منذ زمن افلاطون، كان تاريخ فلسفة الرياضيات مليء بالتفسيرات المناهضة للأفلاطونية محاولا اسقاطها من برجها السماوي واعادتها الى الارض. احد التفسيرات في بداية القرن العشرين سمي بـ التقليدية conventionalism، نظر الى الادّعاءات الرياضية كـ "تحليلية" او صحيحة بحكم الاتفاق. الادّعاء التحليلي هو أي ادّعاء صحيح فقط بسبب المعنى التقليدي لعبارته – مثل "كل العزاب غير متزوجين". ونفس الشيء، الادعاءات الرياضية كان يجب ان يُنظر اليها صحيحة فقط بسبب التعريف التقليدي لعباراتها. أيضا في بداية القرن العشرين، كان الرياضي ديفد هلبرت من البارزين جدا في تطوير الشكلانية formalism، وهي الرؤية بان الرياضيات ليست اكثر من الاستخدام المرتكز على القاعدة لرموز لا أهمية كبيرة لمعانيها. وتقريبا في نفس الفترة، طور الرياضي L.E.J.Brouwer الحدسية intuitionism، التي اعتبرت الادعاءات الرياضية تُبنى من خلال حدسنا الذاتي. هذه التوضيحات للرياضيات جميعها رفضت الافلاطونية من خلال تجنب أي إشارة لذهن – او أشياء رياضية خارجية اسطورية مجردة.
مع ذلك، في ورقة هامة "الحقيقة الرياضية" في مجلة الفلسفة، عدد70،1973، يرى الفيلسوف بول بيناسيراف Paul Benacerraf ان التفسير الافلاطوني للرياضيات يجرّد الادعاءات الرياضية من حقيقتها الموضوعية بالمعنى الشعبي اليومي، أي، من فكرة ان الحقائق الرياضية صحيحة سواء اعتقد بها المرء ام لا. الحقيقة الموضوعية هي خاصية للرياضيات وهي واضحة لمعظم الناس، لكن التوضيح المناهض للأفلاطونية يجعل الرياضيات ذاتية (رغم ان حجة بيناسيراف موجهة نحو التقليدية والشكلانية، ولن تكون الحدسية أفضل حالا).
في ورقته، يبيّن بيناسيراف ان الادعاءات الرياضية مثل "ان هناك على الأقل ثلاثة أعداد زوجية اكبر من 17" لها نفس الشكل النحوي والمنطقي كما في الادعاءات غير الرياضية مثل "ان هناك على الأقل ثلاث مدن كبرى أقدم من نيويورك". وهكذا، يزعم بيناسيراف بانه لو كانت الادعاءات الرياضية صحيحة بنفس الطريقة الموضوعية التي تكون بها الادعاءات صحيحة لكل الأشياء اليومية او حقائق، عندئذ يجب ان تكون أشياء الادعاءات الرياضية موجودة ايضا بشكل مستقل عن أشكالنا وتقاليدنا الذاتية. بعبارة أخرى، مثلما تصح الادعاءات حول المدن الواقعية التي يجب ان تكون مدن موجودة موضوعيا، كذلك يجب ان تكون ادعاءاتنا الرياضية حول الأعداد والدوائر التامة وما شابه، تكون صحيحة في أعداد ودوائر تامة موجودة موضوعيا. لذلك، سيبدو ان الافلاطونية هي التفسير الرياضي الوحيد الذي يسمح بالحقائق الموضوعية للرياضيات.
كيف نعرف الحقائق الرياضية؟
هناك مشكلة أثيرت امام الافلاطونية عرضها بيناسيراف. اذا كانت الأشياء الرياضية مثل الأعداد والدوائر التامة توجد كأشياء مجردة وراء الزمان والمكان، ولا تتأثر او تؤثر في أي شيء في عالمنا اليومي، كما تزعم الافلاطونية، عندئذ كيف نتوصل الى معرفتها؟ اذا كان يجب علينا ان نفترض وجود الأشياء الرياضية الافلاطونية لعمل ادعاءات رياضية صحيحة موضوعيا، عندئذ نحن تُركنا في مأزق: اما نقول ان الرياضيات ذاتية، او نوضح كيف يمكن ان نمتلك معرفة بالأشياء غير الزمكانية التي لا يمكن الوصول اليها. نعتقد بان التفسير المضاد للأفلاطونية والتجريبي بالكامل للرياضيات هو وحده يستطيع الاستجابة بشكل مثمر لهذا المأزق الايبستيمولوجي. الفيلسوف فيليب كيتشر Philip Kitcher في كتابه (طبيعة المعرفة الرياضية،1984) يفترض بالضبط مثل هذا التوضيح عبر تحديث التجريبية الرياضية لجون ستيوارت مل.
كيتشر يرى ان الرياضيات تتألف ليس من كينونات افلاطونية مجردة وانما من عمليات تجريبية إنسانية عامة تُجرى في أشياء مادية: مثل جمع وربط وفصل الحصى مثلا. فمثلا، القول الرياضي ان 2+3=5 طبقا لكيتشر سوف يشير أولا الى عملية تجميع تجري في الأشياء تسمى (يساوي 2)، ثم الى عملية تجميع لـ (يساوي 3)، وأخيرا الى العملية النهائية المركبة لـ (يساوي 5). الرياضيات المتقدمة سوف يتم تطويرها من هذه البدايات الادراكية البدائية والتي في النهاية تسمح لنا لتصوّر الهياكل التجريبية للعالم من خلال الرياضيات. وكما يجادل كيتشر، نحن لم نعد نحتاج لتأدية عمليات تجريبية ماديا، نحن نستطيع ان نؤديها في اذهاننا. وحتى مع هذا، العمليات الذهنية التي جُسدت من خلال رموزنا الرياضية لاتزال يتم تعقّبها في النهاية الى التجريبي، أي، للعمليات المادية.
وبالنظر لهذا التوضيح التجريبي، سيتم الاحتفاظ بـ "الحقيقة الرياضية" في المعنى الموضوعي الشعبي . الأقوال الرياضية ستكون صحيحة بمقتضى الواقع الموضوعي للعمليات التجريبية التي تشير اليها الادعاءات الرياضية. كذلك، هذه العمليات تقع كثيرا في الزمان والمكان، وبهذا تتجنب صعوبات بينساريف الايبستيمولوجية. ستكون لدينا معرفة في الرياضيات ليست من المعرفة حول الأشياء المجردة وانما من المعرفة حول العمليات التجريبية التي ترتكز عليها الرياضيات في النهاية.
درس الرياضيات اللامحدودة
النقد الشائع للتوضيح التجريبي هو ان الرياضيات هي بلاشك حول اللانهائية مثل المجموعات اللامتناهية infinite sets. ربما لنا الحق التساؤل كيف تطورت رياضيات اللامتناهي في ظل التفسير التجريبي طالما انه من غير الممكن للإنسان المحدود ان يؤدي عمليات تجريبية لامحدودة حول أشياء مادية. احد الحلول الممكنة اقترحه كيشر Kitcher، سيكون من الأفضل لنا ان ننظر الى المجالات اللانهائية للرياضيات باعتبارها عمليات تجريبية مثالية لانهائية. علينا ان نتصور نوعا من وكيل مثالي بقدرات لا حصر لها يستكمل بطريقة ما عمليات تجريبية لامحدودة، وبهذا يزودنا بتوضيح تجريبي للانهائيات. يرى كيتشر ان هذه الوسيلة المفاهيمية ستكون قريبة من المثالية المفيدة في الفيزياء مثل غازات مثالية وسطوح خالية من الاحتكاك. البعض اجابوا بان الأشخاص المثاليين هم ذاتهم مشابهين جدا للمجردات الافلاطونية التي نحاول تجنبها. آخرون جادلوا بان المثالية المثيرة للإشكال بشأن اللانهائيات لا داعي للاستعانة بها اذا كانت موافقتنا التجريبية تشير فقط الى لانهائية محتملة وليست لانهائية حقيقية (التمييز الذي اول من وضعه ارسطو). اللانهائية الحقيقية كلية لانهائية مكتملة، مثل مجموعة مكتملة من الاعداد الطبيعية او توسعات عشرية مكتملة لأعداد غيرعقلانية مثل (pi)(1)
بالمقابل، اللانهائية الاحتمالية لا نهاية لها، دائما عملية غير تامة مثل حساب الأرقام الطبيعية او حساب التوسع العشري اللانهائي المحتمل. ان اللانهائية الحقيقية، لو نُظر اليها كعمليات تجريبية سوف تتطلب اشخاصا مثاليين كما افترض كيتشر بسبب اكتمالهم. لكن التجريبي بدلا من ذلك يفسر لانهائية الرياضيات باعتبارها دائما غير تامة – فقط تستلزم عمليات لامتناهية محتملة. فمثلا، التجريبي يمكن ان يفسر الاعداد غير العقلانية مفاهيميا – عملية او حساب مرتكز على تجريب لامتناهي، موّلداً لانهائي محتمل لكن ليس توسع عشري تام. لذا بالرغم من ان التوسع العشري للأعداد غير العقلانية سيكون لامحدود محتمل، سيبقى دائما محدود في أي لحظة من الزمن نتيجة لمحدودية الانسان. هذه الفكرة تتجنب الحاجة لأشخاص مثاليين. بالنسبة للتجريبي، لا وجود هناك الى لانهائي حقيقي ولا أي عمليات لانهائية حقيقية نوعا ما "تامة" من جانب وكلاء مثاليين. هناك فقط لامحدوديات محتملة.
كمثال اخر، دعونا نعود الى الدائرة الافلاطونية التامة التي ذكرناها سابقا والتي جرى تصورها كمضلع لامتناهي الاضلاع.هذا يمكن أيضا ان يُفسر من جانب التجريبي ليس كلامتناهي حقيقي وانما فقط لامتناهي محتمل – كلامتناهي مفاهيميا، دائما كعملية تجريبية غير تامة. وبالضد من الافلاطونية، بالنسبة للتجريبي لا وجود هناك لأعداد افلاطونية ابدية ومجردة، الدوائر التامة والمثلثات وماشابه لا توجد على الأرض ولا في السماء الافلاطوني: هناك فقط عمليات وتقريبات متناهية غير تامة.
هل يمكن ان تكون الحقيقة الرياضية عرضية؟
آخِر مخاوف التجريبية الرياضية هي انه لو كانت الرياضيات حقا تُختزل في النهاية الى عمليات مُلاحظة، ذلك يجعل حقيقة الادعاءات الرياضية عرضية contingent (2) طالما ان الادعاءات المشتقة تجريبيا هي في معظمها صحيحة عرضيا. لكن يبدو لمعظمنا العكس هو الصحيح، الرياضيات صحيحة بالضرورة وغير معتمدة على أي طارئ. الرد التجريبي السريع سيكون ان الرياضيات فقط لأنها تبدو صحيحة بالضرورة، ذلك لا يعني انها كذلك. وكما بالنسبة لجون ستيوارت مل، التجريبي سيكون سعيد جدا في قبول ان الرياضيات فقط صحيحة عرضيا.
وبلا شك، تفسير التجريبي للرياضيات يجعل فهم الرياضيات العالية اكثر صعوبة وبالتالي أقل جاذبية للعديد من الناس. مع ذلك، تفسيرات التجريبية على الأقل تمنع التضخم غير الضروري لما لدينا من ميتافيزيقا طالما هي تتجنب الحاجة لإفتراض وجود أشياء رياضية افلاطونية مجردة.
***
........................
المصدر:
Mathematical knowledge: A Dilemma, Philosophy Now, Oct/Nov 2010
* الكاتب: رويفيرا مصمم غرافيك في مدينة ميسي سوجا، اونتاريو
الهوامش:
(1) العدد غير العقلاني هو ثابت رياضي يساوي 3.14159،أي نسبة محيط الدائرة الى قطرها. قيمة الرقم هو ذاته في كل دائرة بصرف النظر عن حجمها.
(2) الحقائق العرضية يكون فيها الادّعاء صحيح الآن لكن يمكن ان يكون كاذبا في ظروف مختلفة. الحقيقة العرضية غير مضمونة بالمنطق او الضرورة، فهي تعتمد على حقائق العالم الحقيقي وقد تختلف تبعا له.






