قراءات نقدية

باقر صاحب: رواية "صيف سويسري": سردٌ فنتازي لعلاج الإدمان العقائدي

هذه الرواية، للكاتبة العراقية المغتربة إنعام كجه جي، تبحث مخلّفات الحقبة الدكتاتورية في العراق، وتأثيرها السياسي والاجتماعي والنفسي في عيّناتٍ عراقيّةٍ مختارة، تمثّل الطيف الواسع للعراقيين، من الذين قفزوا من السفينة قبل أن تغرق، أي هرب الكثير منهم، واستقرارهم في بلدان اللجوء الأوروبي، حيث فتّش عن تلك العينات باحثون متخصّصون من عدّة دوائر صحية. بحثوا أمرهم في إحدى لجان البرلمان الأوروبي، فاختاروا تلك العيّنات بعد تدقيق، وأرسلوهم إلى مدينة بازل السويسرية، ليجرّبوا فيهم عقاراً جديداً للإدمان العقائدي. هذه العيّنات، هم أربع شخصيّات من مرجعياتٍ مختلفة، جعلوها تتجاور في مكانٍ واحد؛ حاتم الحاتمي، الذي يعرّف نفسه؛ مدمن قومية عربية، وغزوان البابلي؛ خرّيج سجون، ومن محبي أهل البيت، وبشيرة حسّون؛ يسارية، ودلاله؛ مبشّرةٌ آثورية. هيّأت لهم شركات صناعة الدواء إقامةً على طرف المدينة، في سكنٍ جامعيٍّ غير بعيدٍ عن مواقع الشركات.

المهووسون بالأوهام

وقد انتُدب مشرفاً لهم على معالجتهم عراقيٌّ أيضاً، دكتور بلاسم؛ اختصاصي في الطب النفسي، وبات يسمّى بينهم" حلّال العقد"، وهي شخصيةٌ مثيرةٌ للجدل بأفكارها المتفتّحة المطروحة في الرواية. أحبّ سندس ابنة بشيرة من طليقها، وتأسّف لأنّه لم تكن ضمن الفريق الذي يشرف عليه. حين أُوكلت المهمة، إلى بلاسم، ضحك على تشخيص العراقيين عامةً، بأنّهم مدمنو عقائد، وأسرى أوهام، تدفعهم إلى رفض أيِّ واقعٍ جديد، وحين جادلهم بأنّ هذه مشكلتهم الخاصة، أوضحوا له بأنّ لهم تأثيراً في حياة الآخرين، فتخشاهم دول اللجوء، حيث يجلب المهووسون بتلك الأوهام لمواطنيها الضرر. بلاسم الذي راح يعالجهم، بالاستماع إلى اعترافاتهم، وقصص حياتهم وأفكارهم، يعتقد بأنّهم بالغوا في توصيف الأضرار التي يسبّبها هؤلاء المهووسون، وأنّهم أخطأوا الهدف، فلم يُسمع عن عراقيٍّ نفّذ عمليةً إرهابيّة في أوروبا، فيرى أنّ العراقيين مظلومون، فهم كـ" سلسبيل له سمعة خل".

حنوٌّ عجيب

يعجب السارد العليم من دول اللجوء، بحنوّها الواضح على المحتمين بها اكثر من بلادهم، هناك يجتهدون في تطبيب أجسادهم وترميم نفوسهم، وإصلاح عطب أرواحهم. بطواعية، يدعونهم إلى تقبّل فكرة العلاج من الإدمان العقائدي، حيث لم يُجبروا عليها، ووضعوا تواقيعهم على الالتزام بتنفيذها عبر إجازةٍ صيفيّةٍ مغريةٍ في سويسرا، ولهذا سمّت الروائية إنعام كجه جي الرواية" صيف سويسري" وهو عنوانٌ جاذبٌ للقارئ، الذي كلّما توغّل في قراءة صفحاتها، يمضي قدماً، لمعرفة مصائر الشخصيات العراقية المنتخبة، إلى أين تؤول، وهل ستشفى من إدمانها العقائدي، وبقولٍ أكبر؛ هل يمكن إشفاؤهم من ذاكرة الماضي؟. الجمل الرشيقة، التي أتقنت كجه جي صياغتها، وكذلك المقاطع القصيرة بعنواناتها الدالّة على محتوى كلّ مقطع، تحفّز القارئ على قراءة الرواية بشغف.

قومي ويساريّة

جاء السرد من قبل راوٍ عليم، ويتناوب معه في الروي حاتم الحاتمي. وصوت سندس، الذي تُختتم به الرواية. سردهم تمثّل في طرح ماضي هذه الشخصيات في العراق، ومن ثمّ مآلهم الآن في المنفى، في فترة العلاج السويسري.

ترمي كجه جي سنّارة التشويق للقارئ منذ الصفحة الأولى، حيث يتحدّث الراوي المشارك حاتم حاتمي عن ولعه بالتي يصحو وينام وهو يتمتم باسمها، فهي لم تفارقه بعد كلّ تلك السنوات في العراق وفي بلد لجوئه الأوروبي. يعلم القارئ بعد صفحاتٍ كثيرةٍ من الرواية، أنّ تلك التي يتحدّث عنها حاتم هي بشيرة، التي تتداعي ذكرياته في العراق عنها، حين كان ضابط أمن، ويتذكّر الحادثة المرعبة، التي أرعبت أهل الحي، حين أُمر الرفاق البعثيون بقتل رفاقهم، وهنا الحاتمي يقتل صديقه "أبو محمد". وهو يقرّ في جلسات العلاج بكلّ الممارسات القمعية، التي أُمر بها ونفّذها، حيث كان ضابط أمن، من ضمن مهمّاته، مراقبة بشيرة اليسارية، إذ كانت جارته، يراقبها بتكليفٍ من قبل السلطات الأمنية. وهو الذي أنقذها حينما زجّت في السجن، فأناب المحقق بالتحقيق معها، ومن ثمّ بطريقته الخاصة، أطلق سراحها. بشيرة علمت لاحقاً أنّه هو من كان يراقبها. فواجهته بذلك في مجمع إقامتهم السويسري. ذاك يقود إلى تجديد علاقة حبٍّ نشأت في بغداد، فقد كان يحبّها، منذ ذلك الوقت. الآن علمت بحبّه القديم لها فتزوّجا. كجه جي ركّزت على شخصيّتي الحاتمي وبشيرة، بصفتهما يمثّلان أكبر تيارين سياسيين سائدين في العراق؛ القومي والماركسي.

بين الوطن والمنفى

مسار السرد، يمرّ عبر غربال المقارنة بين الوطن والمنفى والتداعي الحر للأفكار والعواطف، فسونيا، الممرّضة، التي تناولهم الحبوب البرتقالية والصفراء والخضراء، تلك الحبوب التي فعلت فعلها، فأعتقت الألسن المربوطة، فأفصحت وباحت بحيثيات ماضيها. الممرضة أثارت في الحاتمي ذكرياته مع النساء في بغداد؛ الزوجة، التي وجّه لها صفعة، بعد أن غسلت بدلته الحزبية، التي أهداها إليه الرفيق القائد، وظلّ يرتديها بعرقها طوال أسبوعين، هو نوعٌ من عبادة الفرد، التي تجسّده الدكتاتوريات. غير الزوجة، هناك الفتاة التي تكتب الشعر، التي يريد أن يجعلها زوجة ثانية انتقاماً من الأولى، غير ذلك مغامراته مع (الكاولية). لكنّ السفن لم تجرِ كما يشتهي النظام الدكتاتوري آنذاك، فيحكي قصّة طلبه اللجوء، إذ اختار أن يكون إنسانيّاً لأسبابٍ مرضيّة، فلا أحد يصدّق لجوءه السياسي والنظام مازال قائماً آنذاك. وها هو في بازل، يفكّر في مصائر رفاقه. فقد كان عازماً على عدم تغيير قناعاته الفكرية، فهي محفوظةٌ في" بقجة الممتلكات الثمينة" .

تأتي الرواية على سيرة بشيرة حسون، التي كانت مترددةً في قبول دعوة رعاية المهاجرين للذهاب إلى سويسرا، لأجل العلاج من إدمان العقائد، وهي اليسارية، فاشترطت رفقة ابنتها لها، كحجّة لعدم الذهاب، لكنّهم وافقوا، ومن ثمّ أدركت بأنّها فرصةٌ لأن تسترخي في بازل، في سويسرا قبلة الميسورين العرب، بصيفها الرائق، على ضفاف بحيرة جنيف، الأثرياء الذين يصفها حزبها بأنهّم "مصاصو دماء الشغيلة. لا بدّ من تأميم ثرواتهم ومصانعهم. انتزاع أراضيهم وتوزيعها على الفلاحين وأبناء الشعب". ومع عدم وجود رغبةٍ حقيقيةٍ في تحقيق أغراض فكرة العلاج من الإدمان العقائد "ستضحك على دائرة الاندماج وتذهب لتمدّ ساقيها في شمس بازل". سخريّتها وصلت إلى أنّها تموت من الضحك، وهي تستمع إلى قصص نظرائها. هذه الساخرة، تعتبر نفسها ذات تاريخٍ نضاليٍّ مشرف" اغتصبوها ولم تعترف. تلوّثت لكنّها خرجت نظيفةً من عار الوشاية. ينحني الرفاق لتضحيتها. والرفيقات"، زوّجوها ستراً لها من رجلٍ غريب الطباع، يرطن بأسماء أساطين الفلسفة الماركسية والأدب الروسي. تشرّدت معه بين العواصم بيروت ودمشق وعدن، وحين وصلوا قبرص، حمل أغراضه ورحل.

وإذا كان حاتم وبشيرة، بعد انتهاء الإجازة السويسرية، عادا إلى ألمانيا، منفاهما الأول، واستقرا هناك، فإنّ غزوان عاد إلى العراق، وأصبح ذا نفوذ ديني، أما دلاله، فقد عادت أيضاً إلى موطنها في كردستان، وهي المبشّرة ضمن شهود يهو، وهي منظمةٌ تبشيريّةٌ انتشرت في الولايات المتحدة الأميركية، وهي كانت محظورةً في العراق، كان زوجها لاعب كرة قدم عراقي . دمّرت زواجها ومضت بعيداً في مهمتها التبشيريّة، فسُجنت مرّات عدة، وبالنتيجة تركت زوجها في العراق، وهربت إلى المنفى.

وفاق وشقاق

في بداية الرواية، تصوّر فنتازي من قبل الراوي العليم، عن مقهى بغدادي، تجتمع فيه شخصيات العراق في تاريخه القريب والبعيد، هو "مقهى وفاق"، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى، فتتوافق فيه شخصيّاتٌ مثل الملك غازي وعبد الكريم قاسم وصدام حسين ونوري السعيد، وسليمة باشا ويونس بحري، والرفيق فهد والسيد الصدر، جميعهم يتقاسمون التخوت. بهذا التوافق الفنتازي، يتحقّق حلميّاً كلّ ما هو معاكسٌ للواقع الحقيقي، حيث" يصبح اللامعقول معقولاً، تجفّ سواقي الدم التي لوّثت دجلة وعكّرت الفرات.." هي رؤيةٌ تلوّح بأن ما صار اليه العراق، من توزّع أبنائه في الشتات، ما هو إلاّ نتيجة اللا توافق بين مكوّناته في التاريخ القريب، وتحديداً في القرن العشرين. اللا توافق، صوّرته كجه جي، بمقهى فنتازي أيضاً، في أواخر صفحات الرواية، سمّته هنا" مقهى الشقاق"، فترسم هنا صوراً معاكسةً لشخصيّات مقهى التوافق ذاتها، وكلّ واحدةٍ منها، تجلس بمفردها، مثلاً" جلس الملك غازي يلعب الشطرنج وحيداً. يدير ظهره لعبد الكريم قاسم" عكس الطاولة الجامعة بينهما في مقهى التوافق. وتُذكر الشخصيّات ذاتها ولكنّهم هنا مستعدّون للتضارب بالكراسي. بهذا تلقي كجه جي تبعة انهيار البلاد على الأيدلوجيات المتصارعة، حيث في الشرق، لا معنى للاختلاف سوى الخصومة، وإقصاء الرأي الآخر. ما شكّل أرضية دكتاتورية، نمت فيها جميع السلبيات القاتلة، مثل تأليه الدكتاتور، والتعصب الأعمى، واستخدام أبشع أنواع العنف في تعذيب المعارضين.

بهذه الفنتازيا السوداء، تريد كجه جي إقناع القارئ بأنّه هذا هو الواقع العراقي الحقيقي" لا غشاوة على عيني المشاهد ولا مونتاج يتلاعب بالصور، يقصقص ويلصق كما يشاء". هذه الفنتازيا، تبدو معلّلةً لمحصّلة الرواية من أنّ شخوصها فقدوا الإيمان بقدرة العلاج السويسري، على انتشالهم من الخدر وجمود الماضي، بهتوا من أنّ حبوب العلاج حوّلت غزوان الساخر، الذي التزم بابتلاعها إلى شخصٍ رزينٍ متجهّم مثل حارس سجن، كأنّه صفن صفنةً كبيرةً على ماضيه المُعذّب، غزوان الذي "عاش خيبات متتالية لا تجتمع إلاّ في عمر واحد إلاّ لعراقي" . إذ ذاك بدء الباقون بالتحايل على ابتلاعها، خشية أن يتحوّلوا مثل غزوان. وإذا كان تناول العقار ركناً أساسياً، فإنّ عدم التزامهم يعني فشل التجربة، ومن ثم استمرار ولائهم لماضيهم، ماضي التعصّب لعقائدهم.

***

باقر صاحب - كاتب عراقي

...........................

* صدرت الرواية عن منشورات تكوين والرافدين- الكويت- بغداد- بيروت عام 2024.

 

في المثقف اليوم