قضايا

حيدر عبد السادة: التمرد كمسؤولية وجودية

يُعدّ سورين كيركـيغارد (1813–1855) أحد أبرز فلاسفة الوجودية، بل رائدها الحقيقي قبل نيتشه وسارتر، وهو المفكر الذي حمل لواء التمرد الفردي ضد سلطة المجموع، وضد النماذج الفكرية الجامدة التي سلبت الإنسان جوهره الحرّ ووعيه الذاتي. إنّ التمرد في فلسفة (كيركـيغارد) ليس تمرداً سياسياً أو اجتماعياً بقدر ما هو تمرد وجودي وروحي، يهدف إلى تحرير الإنسان من "القطيع"، وإعادته إلى ذاته، إلى مسؤوليته الفردية أمام الله والوجود.

يرى (كيركـيغارد) أن الإيمان الحقيقي لا يقوم على البرهان أو العقل، بل على القفزة الوجودية التي تتجاوز المنطق نحو علاقة شخصية بين الإنسان والله. هذه القفزة نفسها هي نوع من التمرد على العقل، وعلى كل نظام يحاول تفسير الإيمان بلغة المفاهيم. ففي نظره، الإيمان لا يُفهم، بل يُعاش، وهو فعل "تمرد" على كل من يريد أن يحصر التجربة الدينية في القواعد أو المؤسسات. ومن هنا، كان تمرد (كيركـيغارد) أيضاً على الكنيسة الرسمية التي حوّلت الدين إلى طقس اجتماعي فاقد للحرارة الوجودية.

ومن بين أحد أكثر المفاهيم مركزية في فلسفة (كيركـيغارد) هو مفهوم "الفرد"، وهو الكيان الحرّ الذي يرفض أن يُذوَّب في "الكلّ"، أي في المجتمع والرأي العام. ويعتبر (كيركـيغارد) أن الحشد – حتى وإن بدا مؤمناً أو متديناً – يمثل خطرًا على الحقيقة، لأن الحقيقة لا تُوجد في المجموع بل في تجربة الفرد الداخلية، هكذا يصبح التمرد عنده صرخة ضد التواطؤ الجمعي، وضد التكرار الميكانيكي لما يفرضه الآخرون من معايير أخلاقية أو دينية أو فكرية.

لا يهدف تمرد (كيركـيغارد) إلى الهدم أو الفوضى، بل إلى تحمل المسؤولية الوجودية عن الذات، فالتمرد عنده ليس رفضاً عبثياً، بل هو وعي مؤلم بالحرية: حين يدرك الإنسان أنه وحده من يختار، وأن لا أحد يمكنه أن يقرر عنه مصيره. وهذا الإدراك يجعله يدخل في قلق وجودي عميق، لأن الحرية تضعه في مواجهة ذاته دون وسائط، وتلزمه باتخاذ موقف أصيل من الحياة والموت والإيمان.

والتمرد عنده يمرّ عبر الألم، والمعاناة ليست لعنة، بل هي الشرط الذي يطهّر الوجود من الزيف؛ الإنسان الذي يتمرد، في نظره، يختار أن يعيش بصدق حتى لو كلفه ذلك عزلة واغتراباً. فالحقيقة لا تُنال إلا عبر التضحية، والتمرد هو شكل من أشكال الفداء الوجودي الذي يعيد للذات صدقها أمام الله والعالم.

وبالتالي ففلسفة التمرد عند سورين (كيركـيغارد) ليست ثورة على العالم الخارجي فحسب، بل هي ثورة على الذات المزيفة في داخلنا، هي دعوة إلى أن يكون الإنسان "أصيلاً" لا نسخة مكررة، وأن يواجه قلقه وشكه وخوفه بشجاعة. بهذا المعنى، يشكل (كيركـيغارد) نقطة تحول في تاريخ الفكر الغربي، إذ حرّر الفلسفة من قبضة النسق العقلي المجرّد، ووجّهها نحو الإنسان الفرد كوجود يعاني ويختار ويتمرد.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم