قراءات نقدية

عدنان عويّد: دراسة في قصيدة "نظل على العهد" للشاعرة منال شاكر

منال شاكر شاعرة سوريّة قال عنها الناقد "يحيى يوسف هلال" بأنها تنتمي إلى جيل الكلمة الحرة، وتكتب بأسلوب نثري شاعري، يمزج بين الحنين والرمز.. تبرز في كتاباتها قضايا الوطن والفقد والحب والحنين للأهل والأرض.. تنشر نصوصها في منصات الكترونيّة عربيّة، وتحضى بتفاعل واسع من القراء لما تحمله من صدق وجداني. اخترنا من بين قصائدها هذه القصيدة (نظل على العهد)، كي نسلط الضوء النقدي عليها خدمة لجهود الشباب الأدبيّة التي لم تحوز بعد على فرصة الحضور الأدبي.

تحاول الشاعرة "منال الشاكر" في هذا النص الشعري تسليط الضوء على دور المال في تغيير أحول الناس، وإظهار تقلبات من امتلكه الأخلاقيّة والقيميّة عموما اتجاه الفقراء من أبناء المجتمع. فهي تقول عنهم:

عندما يكون أصحاب المال في وضع مشبع بالسرور، فهم لا يعترفون بأحد غيرهم، وكل ما عداهم هم أناس لا أصل لهم ولا نسب. أما في حالة ضرائهم فلن ننال منهم سوى العتب والظلم وكل ما ينال من كرامتنا من تلك القلوب السوداء التي لا تعرف قيمة للإنسانية..

المال كما تقول الشاعرة يغير أحوال الناس في شكلهم ومضمونهم، والأهم في موقفهم من الفقراء، حيث يجحدون حقوقهم، أو يرفضون العون والمساعدة لمن يحتاجها حتى للأقربين منهم، فعندما يطلب منهم المساعدة ينسحبون وكأن أمر أقربائهم لا يعنيهم شيئاً. نقول الشاعرة " منال الشاكر" عنهم:

في سرائهم لا أهل ولا نسب..

وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.

تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..

وحين يجحد حق المرء تنسحب.

كم من قريب إذا ناديته جفلاً..

كأنه ما عرفنا لا ولا احتسب.

إن الناس في أيام الخير تراهم أخوة متحابون طالما أن لا يحتاج أي منهم للآخر. ولكنهم في الأزمات وشقاء العمر ينكرون بعضهم بعضا.. وهنا تظهر على الساحة الاجتماعيّة تلك النفوس الكريمة التي ترفض الذل للآخرين. فهم كما تقول الشاعرة يبقون على عهدهم ولن يطلبوا مكافأة أو مساعدة من أحد، فعزت نفوسهم تأبى عليهم أن يباعوا ويشتروا بالمال. وهم صابرون على بلواهم ويدركون أن المحن التي يمرون بها هي عابرة، ومع تجاوزها ستعلي عزة النفس مقامهم.

فالناس في فرح الأيام أخوة ود..

لكنهم في شقاء العمر قد شطبوا.

نبقى على العهد لا نرجوا مكافأة...

فالعز في النفس لا يُشرى ولا يُهب.

فالصبر على الناس إن الصبر مرتبة..

تعلي المقام وإن جاروا وإن كذبوا.

فالحياة عند الشاعرة تجربة علينا أن نتعلم من مآسيها وكيف نقاوم كل الشرور من أجل كرامتنا. فهي تقول: نحن نجرب الناس في كل حال من أحوال الحياة بسرائها وضرائها، وفي تجربتنا سنعرف تلك القلوب المشبعة بالإنسانيّة، أو التي أفقدت سلطة المال تلك الإنسانيّة. وبالتالي نعرف عدونا من صديقنا، نعرف من هم الذين كانوا يتوددون لنا أيام خيرنا وحافظوا على هذا الوداد، ومن هم الذي أنكره وقلبوا لنا ظهر المجن في محنتا.. نعم تقول الشاعرة "منال" مؤكدة بأن كرام النفوس سيظلون في رقي أخلاقهم وقيمهم ومكانتهم الاجتماعيّة، فهم على قناعة بأنه لن يكون هناك من يذلهم لا خلق كان أو نسب. تقول:

نجربهم في كل حال.. فإذا بعض القلوب لنا..

وبعض القلوب قد شطبوا.

فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..

ولا في يد تمد ثم تنسحب.

لكننا نرقى نحفظ عهدنا..

فما خاننا خلق، ولا ذلنا نسب.

البنية الفكريّة للقصيدة:

إنّ الأديب الحقيقي الملتزم بواقعه الاجتماعي، شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً، لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها، لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب الواقعي يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه، فهو في كينونته ظاهرة اجتماعيّة بامتياز، وهو الطاقة الابداعيّة التي تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، وبناءً على كل ذلك هو صورة المجتمع. فليس دوره مقتصراً على تصوير الواقع وقضاياه فحسب، بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات هذا التخلف.

لقد سعت الشاعرة "منال شاكر" في جهدها هنا أن تكشف عورات المجتمع بما يحمل من بنى طبقية متفاوتة، وما تساهم به عمليّة التفاوت هذه، من خلق قيم وسلوكيات وعادات وتقاليد ورؤى للواقع في مجمل حالات تحولاته وتبدلاته، والأهم ما هي انعكاسات هذه التحولات على البنية النفسيّة والأخلاقيّة في بعدها الطبقي على الفرد والمجتمع، وقد أشارت القصيدة فعلاً على انعكاسات هذه التحولات كما تبين معنا من خلال عرضنا للبنية الحكائيّة أو السريّة للقصيدة.

البنية الجماليّة والفنيّة للقصيدة:

الصورة في النص الشعري

تظل اللغة في نحوها وبلاغتها ومحسناتها البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتقديم والتأخير، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، وتراكيب جملها، أداةً للتصوير الأدبي في الشعر. والشعر من الفنون الجميلة، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير في المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية عند جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً على المتلقي من خلال استخدامه للمفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول اليومي المباشر بين الأفراد والجماعات. إن الشعر فن ينتهي إلى غايته الجماليّة والتوصيليّة عن طريق اللغة التي يشكل منها الشاعر عالمه الشعري. فالشعر كما يقول أحد النقاد هو (تفكير بالصور). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.

لقد استطاعت الشاعرة "منال الشاكر"، أن تصور واقعة الاجتماعي عبر صور ذات حمولة فكريّة وعاطفيّة أو وجدانيّة عالية.. لقد استطاع أن تجسد المعنى المتخيل في نصها كمصور فوتوغرافي، امتازت صورها بالوضوح أمام المتلقي الذي راح يتمتع بجماليّة هذه الصورة التي اعتمدت فيها الشاعرة التجسيد أو التشخيص والتجريد والمشابهة. تقول:

(في سرائهم لا أهل ولا نسب..).. (وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.).. (تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..). (فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..).

هكذا نرى أن الصورة الشعرية بكل دلالاتها في هذا النص، لم تأتي بها الشاعرة " منال شاكر" للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما جاءت تعبيراً أصيلاً أملته ظروف التفاوت الطبقي والمأسي التي يتركها هذا التفاوت من آثار على حالة الفرد النفسيّة والشعوريّة معاً، لذلك كانت الصور حاملاً أميناً لمشاعر الشاعرة وتُرجماناً لنفسها، وترجمةً لصدق أحاسيسها وعواطفها.

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

الموسيقى في قصيدة "نبقى على العهد":

رغم وجود فرق بسيط بين وزن القصيدة المتعلق بعروضها وقافيتها، وهو ما يسمى بالموسيقى الخارجية، وبين الايقاع في القصيدة الذي يسمى بالموسيقى الداخليّة، التي تتجلى في ذلك التناغم الداخلي الحاصل من النبر أو الصوت الداخلي للنص الناجم عن الحالة النفسيّة والشعوريّة وحتى الحالة الفيزيولوجيّة للشاعر التي تتطابق وتتناغم الحروف والكلمات وتنسجم مع الوحدة الموسيقيّة العامة، ومع تأكيدنا على هذا الفرق بين موسيقى الخارج والداخل.

لقد قامت قصيدة الشاعرة منال شاكر على البحر (البسيط،) وقد تجلى فيها تناغم الحروف، وبراعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى، ليأتي الصوت أخيرا يحمل أهميّة كبيرة في التأثير على المتلقي، وهذا ما تجلى في قصيدة " (لنبقى على العهد). حيث تجلت موسيقى النص في تفعيلات البحر البسيط مع تناغم القافية في حرفي (الألف والباء) مع براعة اختيار الكلمات وتراكيبها وصورها، والترابط ما بين المعنى والمبنى. تقول:

في سرائهم لا أهل ولا نسب.. وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب...تبدو الوجوه إذا المال استقر بها.. وحين يجحد حق المرء تنسحب...كم من قريب إذا ناديته جفلاً..إلخ).

لقد استطاعت القصيدة في المحصلة، أن تعبر عن دواخلَ ومكنوناتٍ الشاعرة التي غالبا ما طمحت للتعبير عن واقع تعيشه، أو عن أحاسيس ومشاعر فياضة قلقة بحاجة للبوح بها، ولكون القصيدة التقليديّة تلزم الشاعر بالوزن والقافية، على حساب الفكرة، إلا الشاعرة استطاعت أن تحوز على الفكرة في قصيدتها وتربط بين المعنى والمبنى في بنيتها السريّة، وتجعل المتلقي يعيش حالة من التفاعل الايجابي معها كون القصيدة لا مست معاناة الكثير ممن يعاني من التفاوت الطبقي.

هناه بعض الكسور في الوزن، ولكن ما يصفح للشاعرة هو قدرتها الرائعة على تصوير قضية اجتماعية شغلت عقل معظم المفكرين والفلاسفة والحكماء عبر التاريخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

...........................

منال شاكر

نبقى على العهد

في سرائهم لا أهل ولا نسب..

وفي ضرائهم نلنا سواد القلب والعتب.

تبدو الوجوه إذا المال استقر بها..

وحين يجحد حق المرء تنسحب.

كم من قريب إذا ناديته جفلاً..

كأنه ما عرفنا لا ولا احتسب.

فالناس في فرح الأيام أخوة ود..

لكنهم في شقاء العمر قد شطبوا.

نبقى على العهد لا نرجو مكافأة...

فالعز في النفس لا يُشرى ولا يُهب.

فاصبر على الناس إن الصبر مرتبة..

تعلي المقام وإن جاروا وإن كذبوا.

نجربهم في كل حال.. فإذا بعض القلوب لنا..

وبعض القلوب قد شطبوا.

فلا خير في ود يذوب إذا اشتكينا..

ولا يد تُمد ثم تنسحب.

لكننا نرقى لنحفظ عهدنا..

فما خاننا خلق، ولا ذلنا نسب.

 

في المثقف اليوم