قراءات نقدية

عيّال الظالمي: تمثلات السجن في مجموعة كلاب الآلهة لـ"نعيم شريف"

المقدمة: من رؤيا يوحنا حين قال: (ورفع ملاك واحدٌ قويٌ حجراً كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً: هكذا بدفعٍ سترمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد فيما بعد، وصوتُ الضاربين بالقيثارة والمغنيين والمزمّرين والنافخين في البوق لن يُسمَع فيك فيما بعد، وكلُّ صانعٍ صناعةٍ لن يوجدَ فيك فيما بعد، ونور سراجٍ لن يضيء فيك فيما بعد ..) إلى (معرض العظام) مرت السجونُ على عيني صوراً متنوعة، صغيرة، مرعبة، مظلمة، وضيقة، أو كبيرة واسعة لا ضوء حياة بها.

السجون بقيود أو دون قيود، او قيود افتراضية، هي موضع محدد لا اجتياز، موضع مقيد بالأصفاد، أو بقرارات فبكل الأحوال ترعاه الآلهة القساة وتحميه وتنفذ أوامر آلهة  صغيرة صاغرة دون سؤال أو دون مشاعر، أو دون طرفة عين أو واعز إنساني، كلاب مطيعة وفيّة، لها مواصفات من الشراسة والقوة و الفتك والتعوّد ما لغيرها، كل هذا تسحبه الكتابة والأفكار المدونة لتظهره للقاريء بكل وضوح وإنارة دون تردد، لا مخفي أمام الكلمة ولا ممنوع ولا تابوات محصنة، واغلبها على صفحاتٍ مسجونة بغلاف زيّنَ بدلالات وعتبات وألوان تبهر الناظر وتجرّه إليها، كما زيّنت السّجون من الخارج بأنواع الطلاء، ووضعت عليها الأبواب التي مصاريعها تشبه أبواب الأساطير، ووقف عليها جنودٌ أو شّرَطةٌ يرتدون أبهى الملابس وألطف الثياب، ولكن ألفاظهم خشنة كما ودَّ الكاتب أن يوضح مقدار خشونتها حيث مثلها بصوت النباح حين تنهر المراجعين، لتعطي للسجن رهبةً ويُزرع الخوفُ، فالقشور الخارجية لا تمت بصلة لما تنطوي عليه الدواخل.

فقد مررتُ بالسجون الحقيقية زائراً ومستدعى ومستودع فيها، ولأغراض التحقيق والملاحقة، والمتابعة، ومررتُ عليها قاريءً من خلال رواتها الذين عاصروها والذين عاشروها والذين عملوا فيها والذين أخذوا وصفها من أفواه تركت صرخاتها ومازالت على جدرانها الصدى وبعض ملاحظات وأقوال وحكم يأس، وللآن تزورهم إلى أسرّتِهم ليلاً لتوقظهم مشاهد الرّعب وصور الدماء وصرخات التعذيب، والأجساد المهشمة، والعيون المفتوحة التي رأت من زارها ولا تستطيع الإغماضة حين غادرتها الروح على أرصفة الاسمنت أو وسط قاعات البرد الذي لا تدفئها كل

مدافيء الحياة. لا أزعم أني قرأت كل ما رُوي ونُثِر ونُظم عن السجون ولكنني تلمست محنة العربي في رواية الشرق المتوسط، وقرأـتُ مجموعة شهداء بلا أكفان واطلعت على ذكريات من منزل الأموات، والكثير من السجون الأخرى حينما انغلقت عيناي وانعكس الضوء على كم من قطرات عالقة اطبقت جفوني ، فأغلق البؤبؤ حين تعثرت على آخر ما قرأت من تقاليد السجون بأنواعها في (كلاب الآلهة).

ففي أحد الأيام أيقنت أن أحشائي تحاول الخروج من جسدي، وأنا اتدلى عكس ما عشت وباتجاه معاكس للحياة، وعلى حد تعبير(نعيم شريف) كالرأس في لوحة (شاغال) عندما علقوني بالمروحة في مديرية أمن ناحية المجد.

ولكنني عشقت سجن الوطن، ولم أؤمن بالرحيل أو الخروج من جدرانه المسفوحة على طول حدوده مع العرب والجوار، حيث عقدت الأمر محبّاً لهذا السجن الكبير وعبر مقولة قلتها (أموت على تراب وطني، أفضل من موتي بجنان الغربة)، لست نادما على سجني فالكثير ممن أحبّوا سجونهم وسجّانيهم، وهناك ظاهرة في علم النفس يوردها في ضوء هذه العلاقة بين الضحية والجلاد، وعملية تعاطف المعتدى عليه مع المعتدي إلى حدود الدفاع عنه، بـ(متلازمة استوكهولم) وعرفوها على أنها ظاهرة تفترض وجود الارتباط وهو استجابة الفرد للصدمة وتحوله إلى ضحية، فالتضامن مع المعتدي هو أحد الطرق للدفاع عن الذات كما هو موضح في (ويكيبيديا متلازمة استوكهولم)، فما بين العقدة السايكلوجية الكبرى هذه ومحبة الوطن الفطرية وما تضمره الأنساق من تلازم عقائدي عشنا نتدافع وندافع ونقاتل في سجن مشرعة أبوابه ومتاح الرحيل للجميع.

***

عيّال الظالمي - العراق/ المثنى

في المثقف اليوم