قراءات نقدية
علوان السلمان: قوة العاطفة وتكثيف الرؤيا في "حرب.. لكنها مقدسة"

حـرب ... لكنها مقـدّسة (*)
بقلم: يحيى السماوي
مـا بـيـنـنـا فـي الـعـشـقِ حَــربُ
ساحاتــــها مـــقل وقـــــلب
*
وضــــرامُـهــا ليس مثلـهما أحــــب: قـــُبَــلٌ وضَــمٌّ
*
الـقـوسُ : حـاجـِبُـكِ الـمُـظـلـلُ
بالسنى.. والســـــــــهم هـدب
*
وحــــمـامــتـاكِ: الــرّايــتـان
واضـــــــــــلأعي للغنم سلبِ
*
حــــــربٌ مُــقــدَّســـة
أوصى بها الانـــــــتسان رب.. كــأنْ
*
الــنــصـرُ فــيـهـا لــــلأســيــر
قــــيوده شغـــــف وحــــــــبِ
*
ولــقــد يـطــيــبُ لـخـاسِــــــر ٍ
في الحرب فوق الخصر صلب
*
زعَــلَ الـحــبــيــبُ فـأظـلـمَـتْ
شمسي وشل الــــدرب رعـــب
*
وعـفـا فـأشـمَـسَـتِ الـكـهـوفُ
ودثر الصــــــــــــحراء عشـب
فإذا بـقـلـبـي لـلــــــــــمـسـرّة
بـعد فاجـــــعة مصـــــــــــــب
*
هـو وحـدُهُ: فـرضُ الـوُجـوبِ
وكــل فرض مستـــــــــــــحب
*
يـا بـرْدُ : كـنْ نـارا ً وحـــربـا
حين اشــــــــواقي تشـــــــــبً*
***
إنّ ما يربط القصيدة بالذاكرة الشعرية هو الإدراك الشعري لمظاهر الحياة والتعبير عن الحساسية المشتركة القائمة على اشتغال لغوي متفرد بجمله الصورية المعبرة عن الجمال وكوامن الوجد.. باعتماد قوة العاطفة وتكثيف الرؤيا الخالقة لبنية مركزة متداخلة في الفعل الشعوري والاستدلالي والانفعالي..
وبتأمل النص الشعري (حرب..لكنها مقدسة) الذي نسجته انامل منتجه الشاعر يحيى السماوي مشكلا رؤية تلخص الواقع ببوح وجداني رومانسي ونزوع انساني متمثل في السلوك القائم على الثنائية الخارجة عن الذات.. ابتداء من العنوان الوحدة الدلالية والنظام السيميائي الذي ترتبط به التجربة الشعرية التي تتمحور حول بؤرته الزمانية والمكانية فتسهم في اكتشاف تضاريسه وتشكيلاته البنيوية على المستويين:الدلالي والرمزي..
مـا بـيـنـنـا فـي الـعـشـقِ حَــربُ
ســاحــاتـُهــا مـُـقـَـلٌ وقــــلـــبُ
*
وضـرامُـــهــا : قـــُبَــلٌ وضَــمٌّ
لــيــس مــثــلــهـــمـــا أحَـــبُّ
*
الـقـوسُ : حـاجـِبُـكِ الـمُـظـلـلُ
بالـسـنى .. و الـسـهـمُ : هُــدبُ
*
وحـمـامــتـاكِ : الــرّايـــــتـان ِ
وأضـلـعـي للغـــنم ســــــــلب
فالنص تأسيس على الاضاءة الخالقة لفن متسع الرؤى.. قوامه اللمحة الفكرية الجمالية التي تكشف عن حالة نفسية بلغة موحية بمفرداتها المشكلة وسيلة تبليغ وغاية في حد ذاتها والتي يعمل المنتج على تفجير قدرتها الايحائية والانزياحية كي يعلن عن وظيفتها الجمالية الناتجة من (الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة سياقيا وتركيبيا.. مع توهج لفظي وتأطير بوحدة موضوعية حاضنة لعمق الرؤيا وشفافيتها.. كون الشعر هو التكامل بين العاطفة والصورة التي تعكس عوالمها التي اكدها علماء الجمال حين قالوا(الشعر هو التفكير بالصورة)..
حـربٌ مُــقــدَّســـة ٌ .. كــأنْ
أوصـى بـهـا الإنـسـانَ ربُّ
*
الــنــصـرُ فــيـهـا لــــلأســيــر ِ
قــيـــــــودُهُ شغـــف وحـــــب
*
ولــقــد يـطــيــبُ لـــخـاسِــــر ٍ
في الحربِ فوق الخصر صلب
فالشاعر يحاول خلق عالم متميز بنسقه الجمالي الذي ينم عن عمق المعنى والرؤية.... وهو يترجم احاسيسه وانفعالاته بنسج شعري يحقق وظيفته من خلال الفكرة والعمل داخل اللغة عن طريق خلق علاقات بين المفردات بوحدة عضوية متميزة بعوالمها المتناسقة جماليا مع دقة تعبيرية بالفاظ موحية ودلالة مكثفة بتوظيف تقانات فنية محركة للنص كالرمز السمة الاسلوبية التي تسهم في الارتقاء بشعريته واتساع مساحة دلالته..والتنقيط (النص الصامت) الذي يستدعي المستهلك لملء فراغاته..
فــإذا بـقــــلـبـي لـلـــــمـسـرّة
بـعـد فـاجــــــــــــعـة ٍ مـصَـبُّ
*
هـو وحـدُهُ : فـرضُ الـوُجـوبِ
وكـلُّ فـرض ٍ : مُــسْـــتـَـحَــبّ
*
يـا بـرْدُ : كـنْ نـارا ً وحـربـا ً
حـيـن أشــواقــي تــــــشــبُّ
فالمنتج (الشاعر) يركز على العناصر الشعورية والنفسية الخالقة لجدلية(الذات والموضوع) لخلق نص الرؤيا في اطاره البنيوي والانطلاق في فضاء الوجود والطبيعة وصولا الى اللحظة الانفعالية المولدة للوظيفة الجمالية المتمثلة في الادهاشية التي خلقها التناصّ المقلوب(يابرد كن نارا وحربا /حين اشواقي تشب) مع قوله تعالى (يانار كوني بردا وسلاما على ابراهيم) آية / 69/سورة الانبياء.. اضافة الى تخطيه الحسيات الى افق الرؤيا باعتماد تقنية السرد الشعري لبناء نصه وتأثيثه بالتداعيات التي ينضحها زمن خارج الذاكرة المتميز بتراكم الصفات التي اسهمت في الكشف عن توتر نفسي حاد..اضافة الى اتكاء المنتج على الحلم واللغة الشعرية الحالمة للخروج عن إطار الواقع وتجاوز الفضائين الزماني والمكاني، والسمو إلى عالم الصورة والخيال.. فيشكل الحلم بؤرة محورية وتشكل اللغة الشعرية بما تتسم به من انزياحات ورموز وتعابير صورية مكونا وخاصية اساسية في هيكلية النص..
زعَــلَ الـحــبــيــبُ فـأظـلـمَـتْ
شـمـسـي وشَــلَّ الـدَّربَ رُعـبُ
*
وعـفـا فـأشـمَـسَـتِ الـكـهـوفُ
ودثــَّـرَ الــصـحــراءَ عــشــبُ
فالشاعر يحاول التحليق في أفق الصورة الشعرية وهو يلّون في أدائه وأسلوبه فنراه فنان يجيد الرسم بالكلمات مع قدرة واضحة على تطويع اللغة بما يتناسب مع الموضوع المطروح, وينسجم مع الصورة الشعرية المعبّرة...فضلا عن توظيفه المتناقضات(اظلمت / اشرقت) للسمو بعوالم النص وتناميه..
وبذلك قدم الشاعر نصا شعريا يستنطق اللحظة الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد حقول تسهم في اتساع الفضاء الدلالي للجملة الشعرية..فضلا عن تلوين عوالمها بايحاءات بصرية وصوتية كي يمنح بؤرة النص ابعادا حركية معبرة عن الحالة الشعورية والنفسية باسلوب دينامي حالم.. وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرته التعبيرية المختزلة لتراكيبه الجملية..فكان تشكله وفق تصميم ينم عن اشتغال عميق يعتمد الجزئيات وينسجها نسجا رؤيويا يرقى من المحسوس الى الذهني..
***
علوان السلمان
...........................
* مقطع من قصيدة طويلة
* تناصّ مقلوب مع قوله تعالى: (يانار كوني بردا وسلاما على ابراهيم)
ـ اللوحة من أعمال الصديق الفنان التشكيلي د. مصدق الحبيب