قراءات نقدية
كاظم نعمة اللامي: الفجوة بين الطموح والتنفيذ.. مأزق المعالجة الدرامية

قراءة نقدية لمسلسل "العشرين"
برز بجلاء واضح في مسلسل "العشرين" صدع جوهري بين سقف الطموح النصي وقاع الإمكانيات التنفيذية. فرغم تقديم نفسه كامتداد ملحمي لمسلسل "العشرة" بافتراض نجاح سابق فضلاً عن حجم الدعاية الترويجية وما طرحته الجيوش الإلكترونية من تهويلات نفخت في رماد العشرين، وسعيه لاستثمار ثيمة الحرب كفضاء درامي خصب، انزلق العمل نحو ما يمكن تسميته بـ "الوهم الملحمي" حالة انفصلت فيها الطموحات عن القدرات الفنية المتاحة. عانى المسلسل من هشاشة بنيوية في نسيجه الدرامي، متجلية في غياب التسلسل المنطقي للأحداث وانعدام التوتر المتصاعد الذي يشكل جوهر أي بناء درامي ناضج.
بدلاً من المعالجة الدرامية المتقنة، استعار صناع العمل أسلوب "الريزخونية" ذلك النمط الخطابي المشتق من طقوس العزاء الشيعية، ليطبقوه على سياق درامي يتطلب معالجة مختلفة جذرياً. هذا الاستيراد الأسلوبي خلق ما يمكن وصفه بـ "الدراما الطقوسية" التي حولت المشاهد من متلقٍ مشارك في بناء المعنى إلى مجرد مستقبل سلبي للشحنات العاطفية المباشرة.
استخدم المسلسل ترسانة من "الأدوات الدامعة" لاستدراج المشاهد إلى حالة تأثر قسرية: الموسيقى الحزينة المتصاعدة كخلفية دائمة، المونولوجات المطولة المليئة بالحنين والألم، والتركيز المفرط على وجوه الأطفال في لحظات الفقد مع تراكم صوري للقبور وهي تجرح روح المتابعة. هذه المنظومة من "الاستمالة العاطفية المبرمجة" أفرغت المسلسل من أي محتوى فكري عميق، محولة إياه إلى ما يمكن تسميته بـ "مشهدية الدموع" التي تستهدف غدة الدمع لا العقل.
المفارقة الدرامية الكبرى تمثلت في أن المسلسل سعى لتقديم صورة واقعية عن الحرب وتداعياتها الإنسانية، لكن استغراقه في "الهيبربوليا العاطفية" (المبالغة المفرطة) أبعده عن الواقعية التي ادعى تقديمها، فتحول إلى نوع من "الواقعية المزيفة" التي اختزلت المعاناة الحقيقية في صورة نمطية مبتذلة للحزن والفجيعة، متجاهلة التعقيدات النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي تفرضها تجربة الحرب على الإنسان. لذا غابت المفارقة الدرامية الحقيقية التي تُعد من أقوى الأدوات التي تخلق التوتر وتثري العمل. في مسلسل "العشرين"، كادت تنعدم هذه المفارقات التي تضع الشخصيات في مواقف متناقضة أو تظهر الفجوة بين ما تعتقده الشخصية وما يعرفه المشاهد. بدلاً من ذلك، سار العمل وفق معادلة عاطفية واضحة افتقرت إلى التركيب والتعقيد.
غابت أيضاً المفارقة السياقية التي تضع أحداثاً متناقضة في سياق متصل، وهي تقنية كان يمكنها أن تمنح قصص الحرب والحب التي يتناولها المسلسل عمقاً دلالياً أكبر. فبدلاً من استثمار التناقضات الطبيعية التي تفرضها حالة الحرب، كالتوتر بين الواجب الوطني والمسؤولية العائلية، أو التناقض بين قداسة التضحية وقسوة الفقد، اختار المسلسل معالجة أحادية البعد تفتقر إلى التعقيد الإنساني الحقيقي.
يمكن القول إن المسلسل عانى مما يسميه النقاد "سيطرة الرسالة على الوسيط" حيث طغت الرغبة في إيصال رسائل محددة عن التضحية والألم، موجهة ومؤدلجة في إطار زمني وجودي ضيق، على ضرورات البناء الدرامي المتماسك.. في المحصلة هذه المقاربة أنتجت حالة من الرتابة التي انزلقت بسهولة إلى الملل والكآبة كما أشار العديد من المشاهدين.
كما وجدتُ أن المشكلة الأساسية للعمل تجلت في خلط صناع العمل بين التأثر العاطفي المؤقت والتأثير الدرامي العميق، فالبكاء الذي قد يستدره المسلسل من المشاهدين ليس دليلاً على نجاحه الفني، بل قد يكون مؤشراً على استسهال استثارة العواطف بطرق تقليدية مكشوفة لمتابعين سذج. فالدموع الناتجة عن "هندسة عاطفية" مفتعلة تختلف جوهرياً عن الانفعال الناتج عن تجربة فنية متماسكة تعكس تعقيدات الحياة الحقيقية.
كان وما يزال الجانب البصري في أي عمل درامي عنصراً محورياً في نقل الرؤية الفنية ودعم البناء الدرامي. أما في حالة مسلسل "العشرين" فقد وجدنا العكس وتم رصد جملة من الملاحظات النقدية التي تعلقت بالمعالجة البصرية وتوظيف الكاميرا.
عانت اللقطات في المسلسل من تواضع ملحوظ في التنويع والإبداع، حيث طغت اللقطات التقليدية المباشرة (الميديوم شوت والكلوز أب) على حساب تنويع زوايا الرؤية وأحجام اللقطات. هذا التواضع في استخدام اللغة البصرية تناغم مع الضعف العام في بناء العمل درامياً، حيث افتقرت اللقطات إلى القدرة على خلق الدهشة البصرية التي تتطلبها الدراما الملحمية.
كما غلبت على العمل مستويات الكاميرا التقليدية (مستوى النظر) مع ندرة في استخدام زوايا مبتكرة أو حركات كاميرا تعبيرية تتناسب مع حجم الأحداث التي افترض أن المسلسل يتناولها. هذا الثبات في مستويات الكاميرا عزز الشعور بالرتابة البصرية، خاصة في مشاهد الصراع والتوتر العاطفي للممثلة آلاء حسين التي كان يمكن لمعالجة بصرية أكثر ديناميكية أن تنقلها بعمق أكبر.
لوحظ اعتماد مفرط على لقطات الوجه القريبة (الكلوز أب) خاصة في مشاهد "الريزخونيات" العاطفية، وهذا ما تماشى مع ما سبق نقده من اعتماد المسلسل على استدرار العطف بطريقة مباشرة. أتت هذه اللقطات القريبة على حساب استخدام لقطات واسعة (لونك شوت) يمكنها أن تضع الشخصيات في سياقها المكاني والاجتماعي، أو على الأقل لقطات متوسطة تظهر التفاعل بين الشخصيات بطريقة أكثر ديناميكية.
افتقرت اللقطات في المسلسل إلى هوية بصرية مميزة، حيث بدت التكوينات الكمبوزيشين مستوحاة من نماذج تلفزيونية تقليدية دون تقديم رؤية إخراجية متفردة تتناسب مع طبيعة الموضوع. ولوحظ أيضاً الافتقار إلى توظيف الإضاءة كعنصر تعبيري في بناء اللقطة، حيث غلبت الإضاءة المسطحة (فلات لايتينك) التي افتقرت إلى العمق والظلال المعبرة، مما حرم العمل من طبقة بصرية يمكنها أن تثري الدلالات الدرامية للمشاهد.
جسد أداء الممثلة آلاء حسين في مسلسل "العشرين" ظاهرة لافتة في الدراما العراقية المعاصرة عكست أزمة عميقة في فهم طبيعة الأداء التمثيلي وأدواته. وقفت الممثلة أمام الكاميرا بوجه رتيب متجلد افتقر إلى المرونة التعبيرية الضرورية لتجسيد التحولات النفسية المعقدة التي افترض أن تمر بها شخصية تواجه فجائع متتالية، متسلحة بأداة وحيدة هي البكاء الذي استخدمته كسلاح مباشر للسيطرة على عواطف المتلقي.
تحول هذا الاعتماد المفرط على البكاء إلى نوع من "الابتزاز العاطفي" الذي سعى إلى استدرار تعاطف المشاهد بطريقة مباشرة وفجة، متجاوزاً الطبقات الأعمق من العمل الدرامي المتكامل. هذا الفقر في الأدوات التمثيلية كشف عن محدودية في فهم الممثلة لطبيعة التعبير الدرامي الذي يتطلب تنويعاً في الوسائل والأساليب، فالدموع وحدها لم تكن كافية لخلق شخصية درامية مقنعة ومؤثرة.
عانى الوجه الرتيب المتجلد من جمود تعبيري أفقد القدرة على عكس التموجات النفسية المختلفة للشخصية، وكأن الممثلة كانت عاجزة عن التنقل بين المشاعر المتباينة التي تطلبتها المواقف الدرامية المختلفة، فلجأت إلى الدموع كملاذ أخير لإثبات قدرتها على "التمثيل". هذا الإفراط في توظيف الدموع تحول مع تكراره إلى حالة من "التضخم الدرامي" الذي فقد تأثيره تدريجياً مع كل اتكاء جديد عليه، فالمشاهد تشبع بالبكاء الذي أصبح متوقعاً ومتكرراً، وفقد قدرته على إحداث الأثر العاطفي المطلوب.
نهض في مسلسل "العشرين" نموذج صارخ لأزمة الرتابة والتكرار على مستويين أساسيين: المستوى التمثيلي والمستوى الموضوعي، مما خلق حالة من الإرهاق البصري والدرامي أثقلت كاهل المشاهد.
على صعيد الأداء التمثيلي، وكما قلنا آنفاً الممثلة آلاء حسين مثالاً واضحاً لما يمكن تسميته "التمثيل القالبي" الذي اعتمد على تركيبة تعبيرية واحدة طغت على مساحة العمل بأكمله، فظهرت تكرر ذات النظرات المندهشة والعيون المتسعة كأنها علقت في لحظة دهشة أبدية لم تتغير مع تغير المواقف الدرامية، وبقيت سجينة هذا التعبير حتى في اللحظات التي افترض أن تحمل بهجة اللقاء مع الزوج أو الفرح العائلي.
هذه الأحادية التعبيرية كشفت عن محدودية في الأدوات الفنية وافتقار إلى التنويع الضروري لبناء شخصية درامية متكاملة، فمن المفترض أن تعكس ملامح الممثل تحولات الشخصية وتطوراتها النفسية عبر مسار الأحداث، لا أن تقدم قناعاً جامداً لا يتأثر بديناميكية المواقف المختلفة وربما ظلال حامض حلو وغيرها من أبجديات الفن المتداعي أثّرت بجلاء على واقعها التمثيلي.
تضاعف هذا الخلل حين انتقل من مستوى الأداء التمثيلي إلى مستوى البناء الدرامي العام، حيث عانت الثيمة الأساسية للمسلسل من استنساخ ذاتي لافت تمثل في تكرار نفس النموذج الدرامي في كل حلقة: استشهاد زوج البطلة، وما تبع ذلك من مشاهد بكائية وتوديعية اعتمدت على توظيف الأطفال والقبور كأدوات لاستدرار عاطفة المشاهد، في مسار دائري مغلق لم يفضِ إلى تطور أو تحول حقيقي.
تحولت هذه المعادلة المتكررة (الزوج-الاستشهاد-الأطفال-الحزن) إلى صيغة جاهزة فقدت قدرتها على إثارة التفاعل الحقيقي مع المشاهد مع كل تكرار، فما أثار التأثر في المرة الأولى تحول إلى نوع من الابتذال العاطفي في المرات اللاحقة.
كما كشفت ظاهرة الاعتماد المتكرر على ثيمة الحرب مع داعش وتحرير المناطق ودور الحشد الشعبي في معظم الأعمال الدرامية الرمضانية العراقية عن أزمة إبداعية عميقة عكست حالة من "الاستسهال الدرامي" الذي فضل المسارات المطروقة على المغامرة في آفاق جديدة. هذا التكرار الموضوعي المتصل خلق حالة من "التخمة الدرامية" حيث شعر المشاهد بالإرهاق من رؤية الموضوع ذاته يُعالج بالأدوات ذاتها في أعمال متعددة، مما أفقد القضية - رغم أهميتها الوطنية والتاريخية - قدرتها على إثارة الاهتمام والانفعال الدرامي الحقيقي.
تحولت هذه الأعمال المتشابهة إلى حالة من "النسخ المتكررة" التي اختلفت في التفاصيل الخارجية وتشابهت في الجوهر، مما عكس ضعفاً في الخيال الدرامي وقصوراً في القدرة على استشراف آفاق موضوعية متنوعة تعكس تعقيد الواقع العراقي بكل تناقضاته وتحولاته. كشف هذا الانحسار الموضوعي عن نوع من "الكسل الإبداعي" الذي فضل الاتكاء على قضايا جاهزة تضمن تعاطفاً مسبقاً من الجمهور، بدلاً من المغامرة في استكشاف قضايا جديدة قد تثير جدلاً أو تساؤلات مركبة.
كانت المشكلة الأساسية في "العشرين" ليست في تناول قضية داعش والحرب التي مثلت مرحلة مفصلية في تاريخ العراق المعاصر، بل في آلية التناول التي تحولت إلى "قالب درامي جاهز" اعتمد على نفس العناصر: البطولة، التضحية، الشهادة، الفجيعة، الانتصار، في دورة مغلقة لم تقدم رؤى جديدة أو قراءات مختلفة للواقع.
تمثلت أبرز إشكاليات مسلسل "العشرين" في الافتقار الحاد للصراع الدرامي الذي يشكل العمود الفقري لأي عمل فني ناجح. خلا المسلسل من التوتر الدرامي الحقيقي الذي ينشأ من تصادم الإرادات والرغبات المتناقضة، مستعيضاً عنه بنوع من "الصراع المفترض" مع عدو خارجي (داعش) بقي في معظم الأحيان خارج إطار الفعل الدرامي المباشر، مما حول العمل إلى نوع من "الدراما السلبية" التي اعتمدت على ردود الأفعال (البكاء، الحزن، الفجيعة) بدلاً من الأفعال الدرامية الفاعلة.
غياب الصراع الحقيقي تداخل مع إشكالية أخرى هي تسطيح الشخصيات وافتقارها للتناقضات الداخلية. قُدمت الشخصيات في "العشرين" كنماذج أحادية البعد، "ملائكية" في بساطتها وخيريتها المطلقة، مفتقرة إلى التركيب النفسي المعقد الذي يميز الشخصيات الدرامية الناجحة.
غابت عن المسلسل تلك المنطقة الرمادية التي تتحرك فيها الشخصيات الدرامية الحقيقية، حيث الصراع بين الواجب والرغبة، بين الإيثار والأنانية، بين الشجاعة والخوف، ليحل محلها تصنيف أبيض/أسود قسم الشخصيات إلى خيرة مطلقة (نحن) وشريرة مطلقة (هم).
إن تجاوز هذه الإشكاليات يتطلب إعادة النظر في المنظومة الإبداعية بأكملها، بدءاً من توسيع آفاق الكتّاب والمخرجين عبر الانفتاح على المدارس الدرامية العالمية، مروراً بتطوير أساليب التمثيل لتتجاوز "أحادية الأداة" إلى تعددية تعبيرية تعكس تعقيد التجربة الإنسانية. فالممثل الناجح ليس من يتقن البكاء فحسب، بل من يمتلك القدرة على التنقل بين طيف واسع من المشاعر المتناقضة، محولاً الشخصية من كائن ورقي مسطح إلى كينونة درامية نابضة بالحياة.
كما يستدعي التطوير الحقيقي ثورة في المعالجة البصرية، لتجاوز "التسجيلية التلفزيونية" نحو لغة سينمائية معاصرة تستثمر الإضاءة والحركة وتكوين الكادر لخلق عوالم بصرية غنية تتجاوز وظيفة "نقل الكلام" إلى التعبير الرمزي والجمالي الذي يتكامل مع النص ويثريه.
على المستوى الموضوعي، تفتقر الدراما العراقية إلى خريطة موضوعية متنوعة تعكس ثراء المجتمع العراقي، متجاوزة "الموضوع الآمن" المضمون استقبالياً، نحو استكشاف مساحات إنسانية واجتماعية مسكوت عنها، من أزمات الشباب إلى تحولات الهوية، ومن الصراع الطبقي إلى تغيرات المنظومة القيمية التي تشهدها المجتمعات في مراحل تحولها.
إن الدراما العراقية، كما تجلى في "العشرين" تقف اليوم على مفترق طرق حاسم: إما الاستمرار في اجترار الصيغ المستهلكة ذاتها التي لا تستثمر سوى مساحة ضيقة من الوجدان العراقي، أو التجديد الجذري في بنيتها وخطابها ولغتها البصرية وموضوعاتها، لتصبح مرآة حقيقية تعكس تعقيدات الواقع العراقي وتحولاته العميقة. وهو تجديد لا يتحقق بالتمنيات، بل بإرادة إبداعية مؤسسية تؤمن بحق المشاهد العراقي في دراما ناضجة تخاطب عقله قبل دموعه، وتستنهض فيه التساؤل والتفكير، لا الاستسلام والخضوع لوصفة عاطفية مكررة.
***
كتابة: كاظم نعمة اللامي
أبو جويدة