قراءات نقدية
يوسف جزراوي: وسام هاشم وسبورة إبداعه البيضاء

ذات مرّة سائلني أحد الكتّاب العرب في هولندا/اوترخت، هل زرت قبر كمال السبتي؟ هل قرأت لصديقه وسام هاشم؟.
بصراحة يومها لم أكن اعرف من هو المرحوم كمال، ترحمت عليه ثم قرأت له فيما بعد، القليل ممّا نشر عنه، فقد طبع صورته في مرآة الخلود.
أما وسام هاشم، كان أسمه متداولاً في الساحة الأدبية منذ أوخر التسعينيات رغم صغري الأدبي يومذاك.
هو شاعر نثري، كتب النّص الأدبي منذ أواخر السبيعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي؛ فرّ بجلد كتاباته من حروبٍ طاحنةٍ في بلدٍ استمدّ إبداعه منه؛ بينما أنا مارست رسالة الكتابة عام ١٩٩٩-٢٠٠٠.
وسام على شاكلتي لا يقرأ لكلّ من هبّ ودبّ، نصوصه، قصائده لا تتعالى على القارئ؛ لغة السهل الممتنع.على قلّة ذات الوقت والمشاغل، قرأت له سهول في قفص، من أنتِ؛ السبورة، قبلة في الميترو…
في كتابي (نخيل في بستان الذاكرة) كتبتُ عن (مبدعين عرفتهم عن قرب) خلال رسالتي الكهنوتية والأدبية، وفي كتاب آخر عنوانه (مبدعون قرأت لهم) لم ينشر؛ كان الهاشم أحدهم، وسام هاشم الذي تسخّى علينا نحن ملّة الأدباء والقرّاء يستحق هذا الغيض من ذلك الفيض.
قبل بضع سنوات أرسلت لي إحدى الصديقات المشتغلات في الحقل الأدبي بالعراق مقالاً للأكاديمي العراقي علي المرهح بخصوص المبدع وسام هاشم… فحفزني بعد أن نال استحساني، لكي أعلق هذه المّعلّقة المتواضعة في سبورته البيضاء كبياض قلبه واشعاره:
وسام هاشم وسبورته البيضاء
لا أدري ما الذي جعلني أظن، وليس كُل الظن إثمًا، بأنّ هذه المرّة لم يجلس شاعرنا المرموق وسام هاشم تلميذًا، ليقرأ ما يمليه عليه معلموه في المدرسةِ كما كانا أيام الصبا في بلدنا الأم؛ بل صار هو الأستاذ وكتب على تلك السبورة البيضاء ما يمر به وعليه أدبيًا وإنسانيًا، بقلم اسود أو بقلم له لون الحياة؟!
حين أكتبُ أمزق الكثير مِن الأوراق، وعلى الحاسبة احذف، اعدل، أغيّر، أضيف، يا ترى هل حمل وسام بيدٍ قلمًا وبيدٍ أخرى ممحاةً ، أم محى من فكر وجدانه ثمّة كتابات أحتفظ بها لذاته ولم يودّ ان يكتبها لنا على السبورات؟!.
نحن حملة القلم أبناء الكار الأدبي الواحد قد نفهم ما يكتبه بعضنا الآخر على ظهر فكر وقلب، إذ نجيد قرأت ما بين السطور، فليس لدينا معاناة ( المعنى في قلب الشّاعر)؛ ففي سبورة وسام القليل من كثير إبداعه، فإن كانت الكلمة عاكسة لكاتبها وصدى أعماقٍ لصاحبها، فإن نصوص وسام تحكي كثيرًا عن لوعة خلجات روحه ونقاء سريرة كاتبها وسمو رسالته.
إنَّ كتابات ذلك العراقي السومري الذي أجلُّ، أراها معمذة بنهري دجلة والفرات، فكُلّما أطالع لوسام هاشم ولغيره أقول ان قصيدة النثر في العراق لاتزال في مرتبتها الأولى.
حين خذلته الحياة، واضناه الأسى... لم يلعن حظه، ولم يغني محسود ما عندي بخت؛ ولم يضع السبع عيون على أغلفة دواوينه، بل شطب مفردة الخذلان من قاموسه وكتب للإنسان عن المفهوم الحقيقي للحياة، وسام صرخة إبداع في وجه الحياة، أوَليس هو القائل: "يخطئ العراقي فقط بنوع السبورة التي تكتب عليه”.
إن وسام الإنسان الذي نشر في زمن الممنوع (سهول في قفص) غدى الشّعر قفصه الحي ومتنفسه الأوحد حسب قرأتي له، فذلكَ الرافديني الذي هجته الحروب، واكتوى بصقيع غربته، إذ رصاصة إغتالت أحلامه في وطنه الأم، لكنه لم يقف مكتوف اليد، بل راح يبحث في غربته عمّا فقده ليدله عليه، فحوّل آهاته إلى نسمات حياة تعج بالابتكار الخلاّق.
من يقرأ لوسام، سيجده غيمة عصرت نفسها طيبة وحبّا وشعرّا...؛ فكانت غيمته الأدبية ماطرة في سهول روح كل من يقرأه ؛ فلا عجب أن ثمّة نصوصٍ لهُ تجدها ذات طابع وجداني بل لاهوتي، وكأنها معمذة بمياه نهري دجلة والفرات!.
وسام الذي كتب نصًا مشاكسًا عنوانه (غلطة العراقي)، أقول بدوري يخطأ من لا يقرأ لوسام هاشم.
خاتمة مطافي
إلى ذلك الشّاعر الإنساني، غير التقليدي أقول لا يزال الكثير من إبداعك لتكتبه على سبورة الأدب؛ تلك شهادة للتاريخ عن شاعر يتربع على عرش معبد الشّعر بلون أدبي خاص به لا يُقلد ولا يكرر.
ولعلّي هنا أبوح لكم بسرٍ: كلما قرأت له أجدني في حضرة ظاهرة أدبية إنسانية، فيها الإمتاع والإقناع والإبداع، فذاك القمر الذي خسف في بلادنا بحكم ظروف يطيل الحديث عنها إن بدء، بات شمس إبداع في دنيا الاغتراب والمشهد الثقافي. إنّه وسام هاشم، الذي أبى أن يرمي يمين النسيان على بلده ورفض بيعه في سوق الأوطان، فترك ذاته وديعةً في نصوصٍ مُعلقة على سبورة تنتصر للإنسان والحياة، تصرخُ استغاثة في وجه الإله مِنَ العباد والبلاد.
دمت ودام نبض إبداعك كلمةً خالدةً على سبورات الوجود. الّلهم آمين.
***
الأب يوسف جزراوي/ أمريكا